فرضت أنيس مارتان لوغان نفسها في المشهد الأدبي الفرنسي بريشتها الخلابة والبراعة النفسية لكتاباتها. بنت عبر عشر روايات، باركها القراء والنقّاد، واعتبروها عملاً خاصاً يطرح الأسئلة عن الوجود. 

كاتبة فرنسية من مواليد 22 تموز 1979 في مدينة سان مالو في منطقة بروتان المطلة على المحيط الأطلسي. درست علم النفس في باريس. ثم عادت لتستقر في سان مالو بعد أن تزوجت وأنجبت طفلين.

اكتشفت موهبتها الأدبية أثناء تحضيرها لرسالة الدكتوراة، كتبت أول رواية لها "الناس السعداء يقرؤون ويشربون القهوة" التي حظيت بجمهورٍ واسع. تتالت أعمالها لتستحوذ على قلوب القراء في فرنسا وفي بلدانٍ أجنبية بعد ترجمتها.

رواية "رجل بألف منعطف" هي أخر رواياتها، نشرت عام 2023. 

أحدهما يحلم بتكوين أسرة.

الآخر يهرب من كل ارتباطاته.

يلتقي كلاهما وسط المحيط الهندي فتربطهما صداقة من دون أن يبوح أحدهما للأخر بأسراره.

يعمل غاري كغواص فيلتقي بالصدفة في جزيرة لارينيون بالزوجة الحبيبة التي أثرت هجره لأنه لا ينجب، وكانت قد حققت حلمها برفقة زوجه، فيقرر الهرب مجددا والعودة إلى فرنسا، ليفاجئه صديقه بطلب غريب: أن يسأل عن زوجته التي هجرها من سبع سنين خلت. 

غاري

لطالما كان البحر وفياً لي، ما خانني أبداً. حضر لي مكائد وأدخل الرعب في قلبي لكن سرعان ما نتصالح. واحد وأربعون ربيعاً ونحن متحابون، غصت للمرة الأولى بعمر الأربع سنوات. يقال ان الأطفال بهذا العمر لا يحتفظون بذكرى واعية. من ناحيتي، هذا خطأ فما كللت عن استرجاع هذه الذكرى. ستقولون لي، غير مهم، المهم فيما تبقى لي من هذه الذكرى وماذا شكلت بالنسبة لي منذ تلك اللحظة. اللحظة التي رماني فيها والدي في الماء، مقرراً انه حان الوقت لأتعلم السباحة. ما قاومت وما خفت. لقد خلقت للغوص، حركت ساقيّ ويديّ بالفطرة، ما سبحت بالشكل المتعارف عليه لكنني تقدمت. وددت البقاء تحت الماء. كلما سحبني والدي لسطح الماء، نفذت من بين أيديهم كالأنقليس لأبقى تحت الماء وأراقب العرض الخلاب لفقاعات الماء وهي تتسلق نحو السطح. ما زلت أشعر بتلك الرغبة التي تشدني للأعماق. تلك الأعماق التي ما فتنت سواي، بيد أنني الآن أشعر أنني اقترب من الهاوية؛ أنني ممتلئ كلياً.

هذا اليوم كان فيصلاً في حياتي.

حياتي التي كادت تنتهي حيث بدأت. البحر، شريك الحياة، الوحيد الذي سامح ضعفي وقبل عيوبي، قرر الآن ابتلاعي.

يسوقه القدر إليها ويأسره سحرها ثم يعرف بانها هي الزوجة المهجورة وأن صديقه غريب الأطوار، هجرها مع ثلاثة أطفال.

يتردد قبل أن يخبرها بالرسالة التي يحمل، فيهز سكينة حياتها التي عانت حتى أعادت حياكتها بعد غياب زوجها المفاجئ الذي أنهى سنوات من الحب والزواج والأسرة برسالة يشرح فيها أنه لم يعد بوسعه الاستمرار وأنه قبل بالزواج والارتباط كي لا يخسرها لكنه بحاجة لحريته. وبهذا تكشف لنا عن أسرار علاقة سامة والمعاناة التي كابدتها حتى وصلت لطلب الطلاق بعد سبع سنواتٍ من غيابه. وهو يقول: "بعد سبع سنوات من إلحاح عائلتها، استسلمت لطلبهم بالانفصال عنه، تخيل أنها أقوى. هل نسيت أنها من أملاكه؟ أما فهمت أنه سيعود يوماً ما؟".

في تلك الأثناء، تحيك أنامل الشغف رباطاً وثيقاً بين حامل الرسالة والزوجة، يحيي فيها المرأة التي اعتقدت أنها شاخت ويفجر ينابيع الهوى التي نضبت انتظاراً للغائب. 

تسحرني زرقة عينيها المتألقتين، زرقة بلون بحرٍ يدعوني للغوص فيه مراراً وتكراراً. في حين تدحرجت عيناي إلى ثغرها الكئيب المفتوح قليلاً فأطلت تأمله قبل أن أنزل لجوف جيدها و بشرتها الرقيقة في فيء نهديها المطليين خلسةً من قميصها المشقوق، خصرها و أردافها، كم وددت أن أشدها إلي, ثم صعدت نحو يديها التي تداعب بعصبية خشب المنضدة. كلما تأملتها كلما شعرت أنني على قيد الحياة.   

بشفافية لطيفة تنقل لنا الجو الأسري وعلاقتها مع أطفالها الثلاث بأعمار مختلفة "فتى وفتاة بعمر المراهقة وطفل صغير"، حواراتهم وسلوكهم وردود أفعالهم مدروسة ودقيقة مما أضفى على الرواية محوراً تربوياً فائق الأهمية. 

يقتحم الغواص، حامل الرسالة، حياتهم بانسيابية فيجد مكان الأب، الذي لطالما حلم ان يكون، شاغراً بينهم. باحثين عن أي خيطٍ يصلهم بأبيهم المختفي غير أبهٍ بالآلام والجراح التي خلفها بهروبه الوضيع. يتدفق بينهم كالماء التي مثل بعمله كغواص ويضمد جراحاً صاح وجعها مع ظهوره برسالةٍ مبهمة من الأب الناسي. 

خطب جلل يهز هذا الشمل الجديد، فالأب والزوج الغائب يظهر مجدداً محاولاً استعادة الحبيبة التي يعدها زوجتها بعد سبع سنواتٍ من الغياب. يسعد بأن وجد البار الذي جمعهما " الأوذيسة" على حالها ويعتبر أن بينيلوب ما زالت بانتظار أوليس. لكن سرعان ما يستشيط غضباً حين يدري أن صاحبه الذي جمعتهما سنوات من الضحك والسهر هو من احتل مكانه. ينقض عليها وعلى حبيبها وتنتهي القصة بشكل درامي يعيد صياغة أوذيسة هذه العائلة.  

أسلوب الكاتبة واختيار مفرداتها يستحوذ على القارئ مع اول صفحة، ثم تحيك العبارات والسرد عالماً يصعب الخروج منه لتأتي البراعة السردية وتأسرنا أكثر فأكثر، اذ تمكنت الكاتبة من تقمص أدوار كل الشخصيات ببراعة وتحدثت بلسان كلٍ منهم بشفافيةٍ وصدق تلامس العقول قبل القلوب.

رحلة شيقة لا نتمنى أن تنتهي بين صفحات رواية "رجل بألف منعطف".

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم