«بومغارتنر» لبول أوستر.. كاتب عجوز يخوض رحلته الأخيرة
يقدّم الروائيّ الأميركيّ الشهير بول أوستر في روايته الجديدة "بومغارتنر" رحلة كاتب عجوز يعاني من الفقد والوحشة بعد رحيل زوجته، ويخوض مغامرته التي تبدو وكأنّها الأخيرة في الكتابة والحياة، بعد خساراته المتراكمة، واعتماداً على ذكرياته السابقة التي تكون زوّادته لزمنه القاسي الذي يواجهه وحيداً، هشّاً، مرتبكاً بطريقة لم يعهدها.
بول أوستر الذي أعلن عن علاجه من مرض السرطان في الأشهر القليلة الماضية، يتبدّى وكأنّه يتماهى في عجزه مع بطل روايته الكاتب الذي يكون في السبعينيّات من عمره، وهو مؤلّف مرموق وأستاذ فلسفة في جامعة برينستون على وشك التقاعد، حيث يرتحل في متاهات الذاكرة والماضي ليواجه الفراغ الهائل الذي تركته وفاة زوجته آنا في حياته.
يستهلّ أوستر أحداث روايته التي تبدأ في عام 2018، ليقدّم للقارئ محطّات من حياة بطله بومغارتنر الذي يبدو تائهاً فقاداً لبوصلته الحياتية، تراه يحتاج إلى جلب كتاب من غرفة أخرى، ولكنّه فجأة يتذكر عدداً من التفاصيل التي كان ينبغي عليه القيام بها، وبعد ذلك يرنّ الهاتف، ثمّ تكون حالة من الارتباك والجهل بما يحدث، ثمّ ينزل إلى القبو فيتعثّر ويسقط..
يقدّم بول أوستر براعة في السرد وعمقاً في تناول موضوعاته، حيث يفرض على القارئ الانغماس في سلسلة من الأحداث التي تعكّر هدوء بومغارتنر وحياته التي تبدو رتيبة في إيقاعها. ومع التقدم في الرواية، يبني منظومة متشابكة من خيوط الذكريات التي ترسم لوحة الرواية.
يمضي الكاتب في رحلة التذكّر إلى سنوات الكلية والزواج في حياة بومغارتنر، ويظهر استراتيجيته في السرد حيث يركّز على تراكم التفاصيل، ويتنقل بين الحاضر والماضي، وكأنّه يمتحن الذاكرة وتأثير الزمن على فعل التذكّر.
يحاول بومغارتنر عبر سلسلة من التفاصيل إعادة بناء حياته التي تسير إلى هاوية العجز والشيخوخة، يستعين بالذاكرة لردم الفجوات التي يخلّفها الزمن، يستعيد لحظات عابرة من الفرح المشترك أو الحزن الهادئ، يستعيد بدايات علاقته وآنا، وكيف تمّ تواصلهما الفكري والعاطفي، والتعاون الإبداعي، والتفاصيل اليومية التي شكلت أساس زواجهما الذي دام أربعة عقود.
يستكشف بول أوستر من خلال رحلة بطله عدداً من السبل المعقّدة التي تتشكل بها ذاكرة الإنسان وهويته وحياته، ذلك أنّ رحلة العودة إلى الماضي، هي بجانب منها رحلة كفاح مع الذاكرة نفسها، وبخاصة تلك الحالة الضبابية بها التي يرى بها الشخص حياته وهو يتذكّر مراحلها المختلفة، وكيف أنّه تتخلّلها ثغرات ينتجها الزمن ويلبسها لبوساً مختلفاً..
يرتحل الروائي بطريقة لافتة وذكية بين الواقع والخيال في عالمه الروائيّ، ويعدّ هذا أحد أكثر جوانب الرواية إثارة للاهتمام، وكأنّ بطله صورة مرآوية له لكن مع تغييرات وإضافات تناسب حالته الروائية، ما يثير أسئلة عن الحدود بين السيرة الذاتية والواقعية في هذا العمل، وما إن كان الكاتب يلجأ إلى التمويه لتمرير محطات من سيرته فيه.
تعدّ رواية "بومغارتنر" شهادة على قوة الحب الدائمة وحضور الماضي المتجدّد، حتى في مواجهة الخسارة، وهي تذكير بأن القصص التي نرويها لأنفسنا، سواء كانت حقيقية أو خيالية، هي التي تحدّد هويتنا وترسم تفاصيل أيّامنا وحياتنا في النهاية.
حين يستعيد بطل الرواية ذكرياته ويعيد رسمها عبر الكتابة فإنّ بذلك يواسي نفسه، ويبتدع لنفسه طريقة للمعالجة والعزاء، لأنّه يجد العزاء، ليس في النسيان، بل في فعل التذكّر نفسه، في الحفاظ على ذكرى زوجته الحبيبة آنا وفي تخليد حبّه الذي يتجاوز الزمن والخسارة.
يتواصل تأمّل بومغارتنر إلى سنواته الأخيرة، يفحص الرغبات، والعلاقات، وتعقيدات التواصل بين البشر، ويقدم إشراقات فلسفية لافتة، كما يثير أسئلة عن الذات ومسار الحياة الشخصية، وكيف تصبح رحلة البطل لوحة يرسمها الروائيّ لتعبّر عن ألغاز الوجود ومعاني الحياة والموت.
يختار الكاتب مدينة نيوجيرسي القريبة من نيويورك التي تعدّ مكانه الأثير في كثير من رواياته، لتكون مسرحاً لأحداث هذه الرواية أيضاً، ويضعها كخلفية للتأمل الداخلي لبطله الذي يعيش عزلته وسط ضجيج الخارج، وكيف أنّ ذلك الضجيج لا يبدّد وحشته، بل تراه يظهر له غربة الإنسان عن ذاته وواقعه ومحيطه، وحالة أنّ الزمن النفسي يلقي بظلاله على المكان ويرسم ملامحه وفقاً لحالة صاحبه.
تتمحور الرواية حول قيمة الفقد ومعانيه، وعمّا يخلّفه من معاناة لبومغارتنر مع فقدان زوجته آنا، حيث يكافح من أجل التكيّف مع حياته الجديدة بدونها، ويشعر بالوحدة والحزن. يتذكر لحظات سعيدة من حياتهما معًا، لكنه يدرك أيضاً أن الوقت قد فات لاستعادة الماضي.
تلعب الذاكرة دوراً مهمّاً في الرواية. يحاول بومغارتنر استعادة ذكرياته مع آنا، لكنه يجد أن الذاكرة مشوّشة. يمكن أن تكون مشوهة أو متحيزة، ويمكن أن تتغير بمرور الوقت، فيدرك أن الذاكرة هي بناء، وأنها ليست صورة دقيقة للواقع.
يمثل الحبّ المتجدّد المستمرّ بعد الموت موضوعاً مركزياً في الرواية، حيث يجسّد حبّ بومغارتنر لآنا القوّة التي تجمّل حياته وتمنحها قيمة ومعنى، وتراه حتى بعد وفاتها، لا يزال يشعر بحبّها ويعيش عليه، ويدرك أنّ الحبّ هو قوّة جبّارة يمكن أن تستمرّ حتى بعد الموت.
يعدّ موضوع تأثير التقدم في العمر على التذكّر نقطة مركزية في الرواية، حيث يمكن استكشافه خلال تحليل كيفية تصوير بومغارتنر لطبيعة التذكر وكيف يتفاعل ذلك مع التفاصيل والذكريات والأحداث المستعادة، إذ يكافح مع تأثيرات الزمن على ذاكرته، من خلال محاولاته لاستعادة ذكرياته وفهم ما إذا كانت ذاكرته موثوقة أم لا، وما إن كان لديه تقدير للفجوات أو التشوهات في ذاكرته، وكيف ما تؤثّر الشيخوخة على القدرة على التذكر بدقة.
من خلال البحث في تفاصيل القصة، قد تظهر لنا لحظات حياتية يُظهر فيها بومغارتنر قدرة على استرجاع الذكريات بشكل أوضح ولكن قد تكون هذه اللحظات متقطعة أو متناثرة. إذ يُظهر الكاتب كيف تتداخل ذكريات الماضي مع الحاضر، وكيف يؤثر التقدم في العمر على قدرة الشخصية على فهم هذه الذكريات ومعالجتها ووضعها في سياقاتها.
يستعرض أوستر أيضاً التأثير النفسي والعاطفي لهذه العملية على بطله، وكيف يتغير شكل التذكر ومعناه مع تقدم الشخص في العمر، وهو ما قد يولد تأملات عميقة حول الحياة والزمن. ويبرز كذلك أنّه يمكن أن يكون تأثير التقدم في العمر على التذكر موضوعاً ثريّاً يُسلط الضوء على جوانب متعددة من الحياة البشرية، ويمكن أن يكون له تأثير كبير على البشر في رحلاتهم الحياتية.
يحكي الكاتب كيف أنّ الفقد والعجز والوحدة تمثّل تجارب قاسية ومعقدة للمرء، حيث يتأمل الكاتب في الجمال والحنان الذي شكلته ذكريات الأوقات الجميلة مع زوجته الراحلة. ينتقل بين المراحل الزمنية كأنّه يسترق صوراً من هناك وهناك حاملًا معه أعباء الفقد والوحدة. ومحاولاً التخفّف منها.
يشعر الكاتب بالحنين العميق إلى زوجته، كما لو كان يحاول استحضار وجهها وضحكتها في كل كلمة يكتبها. يتجلى الحنين في حواره مع الذكريات، حيث يروي اللحظات البسيطة التي صارت كالكنوز في خزانة ذاكرته، محاولاً جاهدًا إخفاء الفراغ الذي تركه رحيلها.
يظهر العجز كظل طويل يغمر الكاتب، فلا يمكنه إيجاد كلمات تعبر عن مدى فقدانه، يجد نفسه عاجزاً أمام عظمة الحب الذي انطلق بمجرد أن التقى بزوجته. قد يكون الكاتب يعبر عن صعوبة الوداع، وكيف أن الحبّ الذي استمر لعقود يتطلب تحمّلاً صعباً لا يمكن تفاديه. ويشير إلى أنّه في غياب الشريك، تتجسّد الوحدة كظاهرة ملحوظة تحيط بالكاتب، يعيش في عالم يبدو خالياً من الحياة، حيث يصارع الوحدة بكلماته وروحه. يصف كيف أن الغربة والعزلة تظلّان مصاحبتين له في كل لحظة.
يستخدم بول أوستر في روايته ما يسمّى بتيّار الوعي، ويغوص في العوالم الداخلية لبطله، بحيث يفسح للقارئ بالتعرّف إلى مكنونات نفسه وأفكاره وذكرياته وأحلامه. ويطعّم معاناة بطله بمشاهد تبدو فكاهية غير متوقّعة، لكنّها تعكس أفكاراً وملاحظات عن الشيخوخة والحالة الإنسانية لبطله العجوز، وكيف أنّه يعاني بعمق من الحزن الذي يتردّد صداه بعمق لدى القارئ.
يتناول أوستر كذلك في روايته جوانب من الأدوار التي تقوم بها المصادفات في حياة الإنسان، وكيف تنعكس على واقعه، وذلك بالموازاة مع استكشاف الموضوعات الفلسفية، مثل طبيعة الوقت والوعي ومعنى الحياة، والدروس والعبر التي يكتسبها المرء بعد تجارب مريرة يتعرّض لها، كتجربة الفقد.
يحرص أوستر على استدراج قارئه للتعاطف مع بطله الذي ينكشف نفسيّاً ويتعرّى شعوريّاً، وذلك في مشاهد ولحظات التأمل لديه، وكيف أنّه يتعامل بحساسية ورقّة مع ملابس آنا، وبذلك يشدّد على العمق العاطفي وتأثير الفقدان المتجدّد عليه.
يلجأ الكاتب إلى إجراء تداخلات بين روايته ومحطّات من سيرته الذاتية، ممّا يمحو الحدود بين المتخيّل وتجاربه الشخصية، وتراه بذلك يثير أسئلة عن لعبة الرواية في مواجهة حياة كاتبها، وهل يستلهم منها حكايات أبطاله وكأنّه يمتح من تجاربه وحكاياته الشخصية لتكون ذخيرته الأدبيّة.
تعريف بالمؤلف بول أوستر:
بول أوستر هو روائي أميركي وكاتب مقالات ومترجم وكاتب سيناريو وشاعر. ولد أوستر في نيو جيرسي، عام 1947. درس الأدب الإنجليزي في جامعة كولومبيا، حيث تأثر بأعمال صموئيل بيكيت وخورخي لويس بورخيس. بعد تخرجه، انتقل إلى فرنسا، حيث عمل كمترجم وبدأ في كتابة رواياته الخاصة. صدرت روايته الأولى عام 1975، لكنه لم يحظَ بالشهرة الدولية إلّا بعد نشره "ثلاثية نيويورك" عام 1987. من رواياته: "قصر القمر"، "اختراع العزلة"، "موسيقى الصدفة"، "كتاب الأوهام"، "الشعب الدموي"، "في حجرة الكتابة"، وغيرها.. ترجمت أعماله إلى أكثر من 40 لغة. وفاز بالعديد من الجوائز، بما في ذلك جائزة الأميرة أستورياس للأدب عام 2006. تتميز رواياته أوستر بأسلوبها السردي والفلسفي وموضوعاتها العميقة، وغالباً ما تتناول موضوعات الهوية والمعنى والوجود. يُعتبر أحد أهمّ الروائيين الأميركيين المعاصرين. وقد أثرت أعماله على العديد من الكتاب الشباب.
* عن مجلة الناشر الأسبوعي
0 تعليقات