تركت مهنة الطب لتتفرغ للكتابة، نبشت الوضع في سوريا والحياة فيها، وبالواقعية والخيال كتبت سوسن جميل حسن رواياتها بلا أيّ بارقة أمل.

مات سعيد ومات جيغا ويموت الطفل. الموت واقع حاضر في كتاباتك، تراقبينه ويؤرقك، لكن الموت في رواياتك موت قاس، ثم تتساءلين"هل هناك أقسى من أن يفر الانسان من الموت المحقق، الى موت أكثر تحققًا؟ ما الموت الأكثر تحققًا وقسوة من الموت الذي رسمته لشخصياتك؟

- كل شخصية من هذه الشخصيات تنتمي إلى نص روائي بعينه، لكنها جميعًا عاشت في بيئة مترعة بالمشاكل المتجذرة والأزمات التي تكبر مثل كرة الثلج، لو نظرنا إلى التسلسل الزمني للروايات الثلاث، فإن أولاها رواية "النباشون" التي يموت فيها الطفل عبد الرحمن، موته جاء بمنتهى الرخص لأنه ببساطة لا قيمة لحياة الإنسان حتى في طفولته في بلدان كهذه، يموت بسبب الفقر والجهل وانعدام الخدمات والسكن في مناطق عشوائية لا يمكن البيوت البدائية فيها الصمود في وجه أمزجة الطبيعة. "النباشون" كانت بمرتبة بوق إنذار لما ينتظر البلاد انطلاقًا من المقدمات التي توفرت بغزارة في المجتمع السوري.

أما "جيغا"، فهو العتبة التي بنيت عليها روايتي "قميص الليل" بعد النباشون، هذا المتشرد الذي بموته "الغامض"، وربما ليس غامضًا في مرحلة تسود فيها الفوضى الأمنية أي مجتمع، يكشف هشاشة النسيج المجتمعي، والأضاليل التي لعبت بوعي الناس، فالواقع قدّم لدينا، في سورية، بعد الانتفاضة بشهور قليلة، أن شعارات العلمانية والتعددية والعيش المشترك والمساواة والعدالة الاجتماعية وغيرها من خطاب برّاق، لم يكن في الحقيقة أكثر من تنظير منفصل عن الواقع، فالفرز الطائفي والقومي والمناطقي طفا سريعًا على السطح، وبانت تلك الهشاشة التي تحدثت عنها.

ليأتي بعدها سعيد الذي مات في روايتي "اسمي زيزفون"، وهنا موت سعيد له سياقاته في حمأة الحرب السورية وما وصلنا إليه في الفترة من 2019 إلى 2020، الزمن الذي انتهت فيه الرواية، هو موت صوت العقل، ضمير الشريحة الكبيرة من السوريين الذين ينظرون إلى ما جرى في البلاد نظرة أخرى بعيدة عن نظرة أطراف النزاع، أو السردية التي يقدمها كل طرف.

في النتيجة السوري يموت بأشكال وطرق مختلفة منذ عقود وليس مع بدء الانتفاضة التي تحولت إلى حرب، وموت أحلام الشباب الذين انتفضوا وأرادوا تغيير واقعهم، وهروبهم في دروب التيه في تغريبة شائكة وأليمة، هو درب آخر للموت، بعدما تحقق الموت في بلدهم، موتهم المادي بسبب الحرب، وموتهم بسبب اليأس وانعدام إمكانية تحقيق الطموح أو الأحلام.

في طفولة المرء يظن أنه يعرف كل شيء، وحين يكبر يكتشف أنه يعرف غير الأشياء التي كان يظن أنه يعرفها.

كيف رأيتِ سوريا في طفولتك، كيف كانت طفولتك في سوريا؟

-  في الطفولة لا يدرك الطفل/ة معنى الأشياء والمفاهيم، يكون فيها البيت هو منتهى كل شيء، أو بالأحرى البيت هو عالم ممتد من البهجة والدهشة والألوان، عالم مليء بالوعود، من دون أن يدرك معنى الزمن أيضًا، البيت، كما يعدّه غاستون باشلار، مكان الألفة ومركز تكييف الخيال. عشت طفولة بهذا المعنى، هانئة ومطمئنة وحميمة، في بيت منفتح، الثقافة والكتاب حاضران بغزارة فيه، واحترام الإنسان كقيمة بحد ذاته من دون التفات إلى تصنيفات ضيقة. إنما لم أكن أفهم معنى الوطن سوى أن سورية هي المكان الذي أعيش فيه ومحبته واجبة.

بعد دخول المدرسة، التي هي برأيي الفطام الأصعب والأكثر تأثيرًا في نفسية الطفل وتكوّن شخصيته، بدأت الأسئلة تنبثق في خاطري، أسئلة تتعدد وتتراكم مع تقدمي في المدرسة والعمر، وبدأ القلق واضطراب الفهم ينتاباني، صرت ألتفت إلى ازدواجية تنكشف أمامي باستمرار، لم يكن العالم والواقع مشابهًا لذلك الذي عشته في البيت، ولم تكن قيمه مطابقة تمامًا لما نشأت عليه من مثالية تكاد تكون من كوكب آخر. هذا ما راح يكبر ويتعاظم مع كبر سني واتساع تجربتي الحياتية واختلاطي مع الآخرين، خاصة بعد دخولي الحياة العملية، ومع الوقت عرفت أن سورية تعاني، وليست هي الوطن الذي رحت أحلم به عندما بدأ مفهوم الوطن يتشكّل في وعيي، ما كان يبدو لنا استقرارًا تبيّن أنه ليس أكثر من حالة استنقاع تتمادى.

 في مقتبل العمر طبيبة، هذه كانت الرواية الأولى، كاتبة في منتصف العمر، لمَ المهنتين؟

- الطب كان مهنتي في الحياة، درست الطب من دون أي معرفة مسبقة، إنما لأنني كنت متفوقة وكان الانتساب إلى كلية الطب تحصيل حاصل، أحببت المهنة في ممارستها العملية، عرّفتني إلى الحياة من وجوه مغايرة لما هو سائد، فتحت لي أبوابًا متعددة على واقع الحياة والناس، وقربتني من أسرار النفس البشرية. الطب كانت مهنتي التي أعيش منها أيضًا وأربّي بنتي وابني بمفردي بعدما توفي والدهما وهما صغيران جدًّا.

أما الكتابة فلا أعدّها مهنة، إنها شغف كان مكنونًا في أعماقي، يتحرش بي باستمرار بينما أسئلتي تتراكم في بالي، وحاجتي إلى قول ما أريد قوله، أو الشروع بحوار بيني وبين نفسي، وبيني وبين قارئ مفترض تتفاقم، هذا الشغف لدى الأديب لا يتركه في حاله، بل يضرم لديه القلق باستمرار، إنه جوع بطريقة ما، جوع إلى طرح الأسئلة حتى من دون انتظار إجابات، وحاجة إلى إرضاء مخيّلة تريد فتح الأبواب أمام الأسئلة والنظر إلى العالم والكون والوجود بعين متبصّرة. لكن مسؤولياتي الجسيمة في الحياة فرضت عليّ تأجيله، ولأن الكتابة الأدبية، أو الرواية بالنسبة إلي، هي مشروع جدير بالتفرغ والعمل من أجله، قرّرتُ الشروع به عندما خفّت أعبائي الحياتية إلى حدّ ما، لذلك أغلقت عيادتي بعد روايتي الأولى "حرير الظلام"، واستقلت من وظيفتي طبيبة في وزارة الصحة مع روايتي الثالثة "النباشون.

 جمعة أتى من جلسات شرفتك، بعض أبطال رواياتك ظهروا من معايناتك لمرضاك، في الغربة من أين يولد أبطال رواياتك؟

- الشخصيات الروائية مهمة جدًّا في العمل الروائي، هي ليست نسخة طبق الأصل عن الواقع، بل حتى لو كانت واقعية بالكامل فإن خيال الكاتب وقدراته الإبداعية تجعله يرسم الشخصية بنسخة ثانية، جمعة الذي كنت أراه من شرفتي وصار بطل روايتي "النباشون" لا أعرف عنه شيئًا، حتى اسمه أنا من أطلقته عليه فأنا في الواقع لا أعرف حتى اسمه، هو مجرد صورة بصرية قمت بالبناء عليها فخلقتُ شخصية ومنحتها ملامح تشبهه من حيث الشكل فحسب، وأسكنتها البيئة التي أردت الحديث عنها، وتركته يواجه مصيره في طريق حياته. ليس جمعة وحده، إنما كل شخصيات رواياتي.

وأنا هنا، حيث أقيم في برلين، أصغي إلى أصوات الحياة، أراقب ملامحها، ملامح الناس في الشارع في الأسواق في الحدائق أمام المدارس في وسائط النقل في الدوائر الرسمية، في كل مكان، وأحاول أن أفهم الشخصية الألمانية، والشخصية المهاجرة أيضًا، ثم أبني منها ما يطلبه السرد. ظهرت أولى الشخصيات الألمانية في روايتي "خانات الريح"، بشخصيتين هما غونتر ومارتن.

 ترسمين أدق التفاصيل للمكان والأشخاص. شخوص رواياتك شخوص حقيقية، كيف تؤثثين المكان؟

- الذاكرة تخزن كثيرًا من الصور البصرية، وكثير منها مرتبط بقرائن ما، يأتي بعدها ما راكمته التجربة والمعرفة، المكان ليس تخطيطًا هندسيًّا فحسب، البناء خليط من القيم والمعايير الاجتماعية، الثقافية، الدينية، الزمنية، الفلسفية، التاريخية، الجمالية، إلخ، هذا يفرضه وعي الكاتب لشخصياته وبيئتها، ووعيه العلاقة بين المكان والمرء، فالمكان يصنعنا بقدر ما نصنعه، وهو عندما نغادره نكون قد أثثناه في أثناء وجودنا فيه، ورحلنا حاملين ذاكرتنا عنه فقط، ذاكرتنا التي هي نحن وما أنجزنا فيه من حياة، وهو في النهاية إعادة تركيب للواقع ضمن احتمالات لا تنتهي.

سألت الكاتب العراقي محمد غازي الأخرس السؤال سابقًا وأعيده عليك، لمَ اخترت المهمشين للكتابة عنهم؟

- المهمشون في الواقع هم الصوت الخفي للحياة، هم الأعماق التي تغطيها جلدة مخادعة، هم الساحة الخلفية للمدن، هم بؤرة الوجع والمعاناة الحقيقية لدى أي شعب، كلّما كبرت ازدادت المشاكل وتراجع الشعب بالعموم في مسيرة الحياة، وتدنّى مستوى السعادة لديه. المهمشون يظهرون بوجههم الحقيقي بلا مواربة، لا يسعون إلى تجميل واقعهم المرّ، وهم انعكاس فشل الحكومات والأنظمة كلها من اجتماعية ودينية وقانونية وغيرها، التي تدير الحياة، فشلها في تحقيق الأمان في المجتمع، في توفير فرص البناء، من بناء النفس إلى بناء الأسرة إلى تخطيط الحياة إلى بناء الأوطان. وبينهم، بين المهمشين تتوالد الأسئلة كلها وتتصارع، أسئلة الوجود والوطن والإيمان والهوية وكل ما هو لصيق بالحياة، وهم في النهاية قوة كامنة، من الجدير إحياؤها ومنحها فرصة العيش وإطلاق مكنوناتها

-برأي سوسن كيف يؤثر الأدب على القضايا؟

- الأدب يخاطب الوعي والمشاعر في الآن نفسه، يفتح أبواب الأسئلة والخروج على الأحادية بكل أشكالها، شأنه شأن الفنون بمختلف ميادينها، هو ركن أساسي من ثقافة كل تجمع بشري أو شعب أو أمّة، الأدب باب واسع يفضي إلى تحريك الوعي ويلفت نظر العامة إلى واقعهم، يطرح أمامهم احتمالات أخرى للحياة، يدفعهم إلى التبصر في دواخلهم وطرح الأسئلة حول كل القضايا التي تخص الإنسان. الأدب ليس انقلابيًّا، أو قائد ثورات، هو يمهّد لها، ويمهّد للتغيير إن كان على المستوى الفردي أم الجمعي.

بعد مرور١٢عام على صدور رواية النباشون، ما الذي بقي منها في ذاكرتك؟

النباشون هي روايتي الثالثة بعد "حرير الظلام" التي صدرت في العام 2009، و"ألف ليلة في ليلة" التي صدرت في العام 2010، ربما رواية النباشون لاقت اهتمامًا وصدى أكبر من قبل القراء والنقاد، وأنا أحبها جدًّا، فهي مرتبطة أيضًا بشكل كبير بحياتي المهنية، عندما كنت أزور مرضى في بيوتهم في أحياء البؤس والهامشية، ويقابلني واقعهم بكمّ كبير من الوجع والقهر والإهمال. لم أكن لأتصوّر أن الإنسان يمكن أن يحتمل كل هذا البؤس في حياته، النباشون باقية في بالي ووجداني، بكل أوجاع أبطالها وأنينهم.

اليوم.. أنت في سوريا، لو انتبهت الى خطواتك الى أين تأخذك؟

- أنا اليوم خارج سوريا، أعيش في الغربة، لكن سورية لا تغادرني، مهما حاولنا التأقلم في أماكننا الجديدة أو البديلة، يبقى المكان الأول يسكننا، بل يبقى كالوشم على أرواحنا، وأنا لا أنقطع عنه، كغيري أيضًا، فإمكانية التواصل متوفرة لنا في عصر العولمة والتقنيات الذكية، ونحن نعيش مع نبض الحياة هناك.

أين توجهني خطواتي؟ لم أفكر قبل اليوم، حتى قدومي إلى هنا حيث أقيم لم يكن قرارًا بكل معنى الكلمة، كان واقعًا فرض منطقه، فأولادي يعيشون هنا، والحياة هناك، في بلدي الروحي، صارت منهكة لغالبية السوريين، وأنا من بينهم. لكنني أين توجهت وأقمت، يبقى الهمّ السوري من أوائل اهتماماتي واستحقاق الكتابة عنه وفيه يلازمني. ربما لو طُرح السؤال عليّ قبل هذه السنوات، في عمر أبكر لكنت أجبت: إلى السفر والبحث والاستكشاف، ثم العودة، فيما لو كان هناك ما يشجع على العودة، ولو لم تصبح الحياة منبع شقاء شرس في سورية.

تقولين على لسان بطلة احدى قصصك" سأمنع ذاكرتي عن ارتياد مشاهد الماضي التي تنهض بكل جمالها وغوايتها في بالي، ذاكرتك أم ذاكرة حياة من تودين لو تغيب؟

- هو قول لإحدى شخصيات رواياتي جاءت في سياق ما، ليس من الضروري أن يكون رأيي أو فلسفتي في الحياة، أنا أجهد كي تكون شخصياتي مستقلة عني، وأرجو ان أكون قد منحتهم هذه الاستقلالية. إنما تبقى الذاكرة، بمعناها اللصيق بالماضي حالة إشكالية، هي تطرح سؤال الماضي والتصالح معه، هل نبقى نحمله بكل حجارته فوق كاهلنا، أم نرمي ما هو جدير بأن يرمى والاحتفاظ بخبرتنا عنه، ثم ننطلق في دروب المستقبل؟ هنا النقطة الأساسية فيما يتعلق بالذاكرة.

ما المرء دون ذاكرة؟ من سوسن دون ذاكرتها؟

- انعدام الذاكرة انعدامٌ لإدراك الذات. خذي مثالًا من يصابون بفقدان الذاكرة بالفعل، نتيجة إصابة ما أو نتيجة ما يسمى إلزهايمر، هم يعيشون بلا إدراك لوجودهم، بلا إدراك للزمن، للمكان، لمعنى الأشياء، وليس لديهم إدراك للآخرين أيضًا، أو معنى وجودهم بينهم. الذاكرة هي نحن في تشكلنا عبر الزمن، هي ما رصفناه من سنيّ أعمارنا، هي ما علمتنا إياه الحياة وتجاربنا ومعارفنا، هي تفاعل كل هذا في إنتاجنا حياتنا، من يفقد ذاكرته تضطرب هويته، لو كنت بلا ذاكرة الآن، ما وجدتِني أتحاور معك اليوم وننتج أفكارًا من حوارنا.

* عن الكاتبة سوسن جميل حسن:

كاتبة من سوريا، رواياتها بترتيب صدورها، من الأقدم حتى الأحدث كالتالي:

حرير الظلام

ألف ليلة في ليلة

النباشون

قميص الليل

خانات الريح

اسمي زيزفون

وارثة المفاتيح.


0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم