صلاة القلق ..قرية صغيرة تحاكي العالم!
يبدو السرد في رواية محمد سمير ندا "صلاة القلق" مخلصًا للحظته التاريخية وحكايته البعيدة شديدة الخصوصية، فليس ثم أي محاولة لإسقاط الماضي على الحاضر، ولا صنع رموز كاشفة للشخصيات التي يتم تناولها والحديث عنها في مجتمع القرية/الرواية، ولكن كل ذلك لا ينفي بالضرورة أن تكون الرواية أمثولة للعالم، إذ كل حكاية قابلة للتأويل، بل وكلما ضاقت العبارة اتسعت الرؤية، كما يشير إلى ذلك الكثير من الدارسين والقراء على السواء.
رغم أن التجربة التي ينطلق منها الروائي المصري محمد سمير ندا في روايته "صلاة القلق" (دار مسكلياني) تبدو واقعية تعود إلى التاريخ تحديدًا لحظة النكسة 1967 في مصر وما تلاها، إلا أن القارئ سيفاجئ بأن ثمة بناء أسطوريًا وفانتازيًا تقوم عليه الرواية، التي تحكي عن قرية مصرية، نجع المناسي، التي انعزلت عن العالم، بل وأوهم سكانها أن انتصارا مصريًا تحقق في ذلك العام بدلا من النكسة، وظل الناس لعشر سنوات أسرى ذلك الخيال/الوهم، الذي ساهم فيه عدد من الشخصيات التي استطاعت أن تفرض سيطرتها على القرية بدءا بخليل الخوجة الذي أصبح بمثابة وزير إعلام النجع والمتحكم في كل ما يصل أهلها من أخبار ومعلومات، أو أيوب المنسي الشيخ الذي يبرر ويقرر ما تدور فيه القرية من أحوال حتى يصبح وسيلتهم لتقبل الأمر الواقع والرضا والتسليم التام به.
((عقلي جراب حاوٍ فقير سقطت منه أغلب الحيل فانفض من حوله الأطفال، ومع ذلك فبعض المشاهد القديمة احتلت مساحة ضخمة من الذاكرة المثقلة ذاتها، شواهي، طفلة وصبية وامرأة، تحتل المساحة الأكبر، فرحتها بالأقراط والسلاسل ورسوم الحناء، سعادتها بجلبابٍ جديد أو قطعة قماشٍ ملوّنة مهداة من عروس تطلبها للرقص في عرسها))
من خلال شخصيات القرية المختلفة، نتعرف الى ذلك العالم الذي يغرق في الخرافات والأساطير الى درجة أن أبناء أهل القرية يغيبون في حربٍ لا يعرفون تفاصيلها، ولكنهم يستسلمون لمشيئة الأقدار، ويروي الكاتب ببراعة كيف يستسلم البسطاء لهذه القوى، وكيف تؤثر على حياتهم، بل إن بعضهم يعلم يقينا أن الخرافات والأساطير تحيط به لكنه لا يملك إلا أن يخضع لها. ندور بين شخصيات نوح النحال ومحروس الدباغ ووداد الداية وشواهي الغجرية والشيخ جعفر الولي وغيرهم، ومع كل شخصية تتكاثر الحكايات وتتشابك حتى تغرق القرية في ظلام لا يظهر منه أي ضوء.
يبدو اختيار تعدد الشخصيات/الأصوات الخيار الأمثل لمثل هذه الحكاية، وعرض تفاصيلها، من وجهات نظرٍ مختلفة، ولكن على الجانب الآخر يبدو الرهان على تمايز هذه الأصوات صعبًا، فاللغة التي كتب بها ندا الرواية شديدة الشاعرية، والقارئ سيلاحظ على الفور أنه ليس ثمة فروق كبيرة أو جوهرية في اللغة بين النجّار والنساج والغجرية مثلاً، بل حتى ولا الولي، في الوقت الذي تعمّد ترك الخوجة بلا صوتٍ خاص، فالجميع يتحدثون عنه ولكنه لا يملك ناصية الحديث، ولا يخصص السارد له فصلاً خاصًا أسوة بغيره، من جهة أخرى قد يبدو ذلك تعمدًا لوضع المهمشين في القرية موضع البطولة والصدارة، رغم أن القرية/النجع والأحداث التي تدور فيها هي البطل والمحرك الأساسي في كل حال.
يمزج محمد سمير ندا بين الواقع والفانتازي، فثمة نيزك يضرب القرية ويحوّل وجوه أصحابها فتصبح كوجوه السلحفاة، ويقر الشيخ بأن ذلك غضبٌ من الله على أهل القرية، ويفرض عليهم صلاة خاصة بطقوس محددة يسميها "صلاة القلق" ويستجيب له الكثيرون، وهكذا تنشيء الرواية عالمها الموازي للواقع، الذي يكشف عن الكثير مما يدور في عالم اليوم، حتى لو لم تفرض على الناس العزلة ولم يقهرهم سلطان ظالم.
((الكتابة توفر كل صنوف العناء، إذ تجنب المرء التردد واللعثمة، وتحرر من سطوة نظرات المستمع، خلف الورق تتوارى مشاعر وتختبئ دموع وتحتبس صرخات، ربما كان لها أن تشتت الأسماع، وفوق ذلك ترتب الأحداث، وتكتسي الحكاية بالهدوء.
جرّبت كل شيء، مضيت والوطن جنين ينبض في أحشائي، لم أعرف كيف ترسم حدود الأوطان بالألغام ولافتات التحذير، والأسلاك الشائكة، ولأي غايةٍ تسال من أجلها شلالات الدم بغير حساب، وطني الذي أذكره اختطفه خليل، ووطني الذي أصبو لمعانقته مايزال جنينًا يتنقل بين حجرات الذاكرة، يبحث عن مخرج ))
يأتي فصل ما قبل النهاية بعنوان "هوامش كاتب الجلسات" ليضع القارئ في الصورة شبه الكاملة لمواقف وأحداث الرواية من وجهة نظر الكاتب، ويبدو فيها أثر الروائي، وما فعله معنا وبنا منذ بداية الرواية، وانتقالاته بين الشخصيات والأحداث، رغم معرفة القارئ الأولى بالحدث الأساسي الذي أصاب القرية، إلا أنه يتطلع لمتابعة الحكايات ومواصلة القراءة أملاً في الفهم، لماذا جرى ما جرى؟ وإلى أي شيءٍ سيئول كل ذلك، حتى تأتي المذكرة النهائية وكأنها المكافأة التي يقدمها الكاتب للقارئ الشوف الذي حرص على متابعة كل تلك التفاصيل وربط المواقف والأحداث سويًا.
تجدر الإشارة إلى أن رواية "صلاة القلق" هي الرواية الثالثة لمحمد سمير ندا، صادرة مؤخرًا عن دار مسكيلياني، ووصلت إلى القائمة الطويلة في الجائزة العالمية للرواية العربية 2025.
0 تعليقات