لتناول التاريخ إبداعياً طرائق وأساليب فنية ومقاصد فكرية وغير فكرية: قومية، سياسية، تربوية إلخ. لجأ إليه المبدعون منذ البدايات، قد تكون مسرحية الفرس لأبي التراجيديا الإغريقية أسخيلوس وقبلها ملحمتا الأوديسة والإلياذة لهوميروس من أولى التجارب التي نقلها لنا التاريخ، أما الرواية فقد كان عليها أن تنتظر الروائي الإنكليزي والتر سكوت ليكتب سنة 1814  روايته "ويفرلي"  لتكون الرائدة في هذا المجال، ثم جاء فيكتور هوغو وكتب بعدها بسبع عشرة سنة روايته أحدب نوتردام تلتها بالشهرة الرواية الخالدة "الحرب والسلام" التي كتبها تولستوي سنة 1865 ..

ثمة مشتركات كثيرة وأساسية بين الرواية والتاريخ من: أحداث وشخصيات وصراعات.. تدور ضمن حكاية تروى سرداً ما حدث في الماضي من قبل المؤرخ، وما يحدث راهناً من قبل الراوي.

ورواية (الأسير الفرنسي) جديد الروائي الكردي السوري جان دوست الصادرة حديثاً عن دار الساقي في لبنان.. تجربة ليست جديدة للكاتب في هذا المجال.  

تتحدث الرواية عن يوميات ومذكرات رسول نابليون، الشاب "بيير جوبيير" إلى شاه إيران "فتح علي الفاجاري" سنة 1805. التي عاشها وكتبها أثناء وجوده في حفرة تحت الأرض تم سجنه فيها هو ومن معه من مرافقين في منطقة بايزيد الكردية من قبل باشا كردي شديد القسوة، خالص التبعية للباب العالي، والذي أوكل أمر مراقبتهم لمحمود آغا الكردي وأسرته الطيبة، إلى أن يرده جواب الباب العالي وأوامره بخصوص هذا الأسير.

يحدد غلاف الرواية الصنف التاريخي لها، رغم غياب أية إشارة إلى ذلك، وذلك من خلال العنوان، المؤلف من كلمتين: صفة وموصوف، والذي يضعنا على عتبة عالم فيه حرب بين قوميات مختلفة، وبين شرق وغرب، لندرك على الفور أننا سندخل إلى محراب التاريخ.

وعلى غير العادة، وكما في الدراسات العلمية والكتب التاريخية الغربية خاصة، ثبت الكاتب محتويات روايته المقسمة إلى 23 فصلاً وملحقاً ووثائق وصور ومراجع تاريخية في الصفحة الأولى؛ لا الأخيرة.

أضف إلى ذلك استثماره الهوامش بمعلومات وشروحات تاريخية.

تبدأ الحكاية بزيارة الروائي نفسه إلى منطقة سنجق بايزيد في جنوب شرق تركيا، ولقائه بثلة من الشباب الكرد لترتيب زيارة إلى ضريح الشاعر الكردي الأشهر أحمدي خاني، وكان من الطبيعي أن تغلب المواضيع الثقافية على هذا اللقاء، لتكون المفاجأة بالنسبة للكاتب سماعه تصريح أحد هؤلاء الشباب عن امتلاكه لصندوق ورثه عن جد له أطلقوا عليه اسم "أوراق الاسطبل"، المكان الذي عثروا فيه على هذا الصندوق. وتحيلنا التسمية على ما في اسطبلات الشرق من أوراق مهمة تحتاج إلى إظهارها للعلن.

في الجزء الأول من الفصل المعنون "البداية والنهاية"، العنوان الذي سيتكرر في نهاية الرواية ليكون بمثابة ضفتي العمل، في هذا الفصل، والمحدد بيوم 27 كانون الثاني سنة 1847 يصطنع الروائي بأسلوب الخطف خلفاً، أو الاسترجاع، مشهد "بيير جوبيير" وهو ينازع الموت في بيته بباريس وسط أهله، لتشترك ثلاثة عناصر بريئة في وداعه الأخير: الطبيعة بجوها الشتائي البارد وسقوط ندف الثلج، لما للبياض من دلالة متعلقة بالموت وطقوسه، وحفيدته الصغيرة ماري وموسيقا ليوهان باخ " تعال أيها الموت العذب" التي تعزفها له الحفيدة. مما يجعل ذاكرته التي ستلعب دورها الفاعل في النص تعود به إلى سجنه تحت الأرض، وذلك حين كان أسيراً سنة 1805 ولمدة سنة تقريباً في منطقة سنجق بايزيد وبروح مثقلة بالحسرة على ضياع يومياته ومذكراتها في تلك المنطقة، والتي أسميت فيها بأوراق الإسطبل!

ليتدخل بعدها الروائي نفسه، بما يشبه كسر الايهام، ويخبرنا أنه سينشر هذه الأوراق واليوميات وسيتدخل في ملء ما محاه الزمن منها.

لتتوالى بعدها الفصول بعناوينها الفرعية في صيغة يوميات ومذكرات يرويها الأسير بضمير المتكلم المناسب لها، والأكثر تعبيراً عن دواخل الشخصية.

ولأن النص عبارة عن مذكرات ويوميات؛ فقد كان من الطبيعي أن تلعب الذاكرة دورها بفاعلية في استرجاع الأحداث الماضية بكثافة وقوة، وتساهم؛ وبالقوة ذاتها، في تشكيل البنية السردية للرواية،

وبما يناسب عملية استرجاع الذاكرة من الحضور الطاغي للمشاعر وغياب للتسلسل المنطقي للأحداث          

والأزمان والأمكنة، المحور فيها، والرابط، هو شخصية الأسير، والمعنى العام من هذه اليوميات عن الثورة الفرنسية وتضحيات ثوارها ودموية قادتها روبسبير ودانتون وما آل إليه مصيرهما، وتفرد نابليون بالسلطة وغزواته لبلدان الشرق وخاصة مصر، التي يفرد لها الكاتب فصلاً خاصاً عنونه بالطالب الأزهري، يتحدث فيها عن حيثيات غزو مصر في حوار طريف بين بيير والطالب الأزهري منصور، يدافع فيها بيير عن الغزو بحجة التنوير وتخليص شعب مصر من المماليك ليفند الطالب الأزهري هذه الحجة الواهية بالمنطق، ومن ثم بالمشاركة في مقاومة هذا الغزو.

في إعادة لما يشبه ما حدث بين الطالب الأزهري سليمان الحلبي والجنرال كليبر، والتي تنتهي باغتيال سليمان للجنرال.

يلاحظ اتساع المساحة النصية لهذه الاسترجاعات بمختلف الأزمنة والأمكنة على المساحة النصية الخاصة بالحاضر، مكان وزمان كتابة المذكرات في سنجق بيازيد، والتي شكل تناولها مجرد رافعة ومدخل للفرار إلى الماضي، في نوع من الهروب بالذاكرة من وطأة عوالم الحاضر الكابوسية، وهو فعل مبرر ومتناغم مع المكان الضيق في السجن: المعتم والقذر، ولعل ذلك ما يبرره نفسياً.

يقاسم المكان في الرواية دور الذاكرة بفاعليته وحسن استعماله، بل وجمالياته، إذ يتجاوز الجغرافيا التي أبدع الراوي في رسم خرائطها وتفاصيلها كمصور محترف، إلى فضاء مؤثث بحميمية، وذلك من خلال ربطه بالزمن والشخصيات في علاقة منطقية متينة لا تنفصم عراها. وتمثل حفرة السجن وما يحدث فيها من صراعات داخل النفس وخارجها، خير مثال على ذلك، إضافة إلى حسن استثمار دلالات الحفرة على أكثر من صعيد: فنياً وفكرياً. 

تكشف اللقطات البانورامية والعامة التي التقطنها عدسة كاميرا الكاتب بكل مقاييسها وبزوايا مختلفة، والموظفة درامياً وفكرياً، عن استفادة الكاتب من تقنيات السينما بشكل واضح، يظهر ذلك مثلاً من خلال تصويره للشوارع في باريس بلقطة عامة أفقية، حيث تسير الكاميرا فيها على عجلات سريعة، وتوجيه الكاميرا في زاوية حادة وقريبة في المشاهد الخاصة بالحفرة.  

رغم أن شخصيات الرواية التي تتوسل ضمير المتكلم تكاد أن تكون صدى لصوت هذا الضمير ومصاغة وفق رؤاه، وتستمد حياتها ومشروعية وجودها منه، إلا أن غالبية هذه الشخصيات، الرئيسة والثانوية، لها ما يثبت حيويتها وحضورها في العمل، ولم يقتصر وجودها على الجانب المادي، فلكل شخصية أبعادها ودورها ومساحتها وعمقها: نكتشف ذلك من خلال رسمها وحواراتها ومنطقها مثل الطالب الأزهري و الشاب الكردي حسين، الموكل بحراسة سجن الأسير ورفاقه رغم بساطة هذه الشخصية وبعدها الأحادي، وضيق مساحة تواجدها في النص.

لا شك في أن للرواية أيضاً، مثل المسرح والموسيقى، بل الكون كله، إيقاعها أيضاً، ولقد استخدم الكاتب من أجل ضبط إيقاع النص: تسريعاً أو تبطيئاً، جملة من الحركات السردية: كالتلخيص الذي جاء في أكثر من موضع، والحذف الذي اقتضته عملية استرجاع الذاكرة، والوقفات التي أجريت فيها الحوارات. وحتى حجم الفصول الواردة في النهاية.. وصياغة الجملة والأفعال.

ثمة ما يمكن أن يؤخذ على هذه الرواية من ناحية إغفال أحداث جرت في زمن كتابة الأسير الفرنسي ليومياته في المنطقة، وهو  إغفاله لأية إشارة عن حال الكرد إبان تلك الفترة، والمعروفة أنها كانت فترة انتفاضة كردية في تلك المناطق، سبقتها ثورة كريم خان زند التي قامت في إيران وسقطت سنة 1794 أي قبل كتابة اليوميات بأقل من عقد من الزمن، أعقبتها ثورة بدرخان بك وتشكيله إمارة بوتان.

كما أن قتل محمود باشا الكردي للأسير الأرمني بالذات بوحشية، قد يعزز لدى القارئ غير الحيادي مزاعم قديمة بمساهمة الكرد في مذابح الأرمن، رغم الصورة القاسية التي رسمه الكاتب لهذه الشخصية، وفضحه لها من خلال تفردها بالسلطة وتبعيتها المطلقة للباب العالي، ليقدم بالمقابل نموذجا كردياً آخر أكثر أصالة وطيبة وتسامحاً من شخصية محمود باشا، متمثلة بأخي هذا الأغا الذي سيطلق سراح الأسير بعد سنة من أسره، والسماح له بمتابعة مهمته والتوجه إلى إيران، وذلك بعد موت الأغا وابنه الأكثر سوءاً من أبيه بمرض الطاعون، في مسعى من الكاتب لإشراك الطبيعة في رسم مصائر البشر كما فعلت حين غطت الأرض بالثلج أثناء احتضار بيير. 

وإذا كانت الطبيعة في هذا النص غير حيادية؛ تشارك في وداع الأسير وهو على فراش الموت، وتقتل الأغا المتجبر وابنه القاسي بالطاعون، فإن الروائي لم يغفل عن مشاركة الحواس في الرواية، من خلال توظيف الروائح ومذاق الأطعمة وسماع الأغاني والأصوات المختلفة للبشر والحيوان، الأمر الذي ساهم في زيادة فعالية التلقي لدى القارئ إلى حد التماهي في عالم الرواية كواحد من شخصياتها.

وفي النهاية، يموت الأسير  في بيته ببارس، وعلى فراشه، في وسط جو جنائزي مكتنز بالدلالات بعد أن يوصي بإكرام عائلة محمود بك الطيبة والرحيمة، لينهي الكاتب روايته بتزويدنا بوثائق وخراط للمنطقة، في تأكيد منه على مصداقية أحداث الرواية تاريخياً، لتكون بمثابة التاريخ غير الرسمي لأبطال حقيقيين غفلت عن ذكرهم كتب التاريخ الرسمية.    

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم