تعد رواية "الأسلاف" (The Bone People) للكاتبة النيوزيلندية كيري هولم من أبرز الأعمال الأدبية التي حازت على جائزة مان بوكر الأدبية عام 1985. تسرد الرواية العلاقات المعقدة والصراعات الداخلية التي تواجهها الشخصيات الثلاثة الرئيسة: "كيروين هولمز" الفنانة المنعزلة، "سايمون" الطفل الأبكم، و"جو جيلايلي" الأب المتبني. هذه الشخصيات ليست مجرد أفراد بل هي تمثل تجسيداً للتوترات الثقافية والتاريخية التي تسكن المجتمع النيوزيلندي، وخاصة تأثيرها على الأقلية الماورية. من خلال هذه الرواية، تلامس هولم التناقضات بين الهويات المتضاربة، والتراث الماوري في مواجهة التأثيرات الكولونيالية الأوروبية.

الخلفية التاريخية والثقافية:

تعد الأقلية الماورية السكان الأصليين لنيوزيلندا، إذ قدموا إلى هذه الأراضي قبل وصول المستوطنين الأوروبيين بفترة طويلة. يعكس وجودهم في الرواية جانبًا هامًا من التراث الثقافي والتاريخي لنيوزيلندا، إذ تعالج الرواية قضايا الهجرة والاندماج والتأثيرات الكولونيالية على هذه الأقلية. وعند قراءة "الأسلاف"، يبدو واضحاً أن هولم تستفيد من الإرث الماوري في إثراء قصتها، حيث تتناول الرواية صراع الشخصيات مع تراثها الماوري وكيفية التوفيق بين الهويات المختلفة.

تبدأ الرواية بإبراز التوترات النفسية والاجتماعية التي يواجهها "جو جيلايلي"، وهو شخصية ماورية يشعر بالانفصال عن جذوره الثقافية. يظهر "جو" متناقضاً، حيث يحاول التخلي عن هويته الماورية في بعض الأحيان، بينما تسيطر عليه مشاعر الندم والعزلة النفسية الناتجة عن فقدان التواصل مع ثقافته الأم. يعاني "جو" من صدمة عاطفية بسبب وفاة زوجته، وينعكس هذا على سلوكه العنيف تجاه ابنه بالتبني، سايمون، الذي يرمز بدوره إلى الغموض وعدم الاستقرار.

الرموز الماورية في الرواية:

تلعب الرموز والعادات الماورية دوراً محورياً في "الأسلاف"، حيث تركز هولم على تصوير التقاليد والتراث الماوري باعتبارهما عناصر أساسية في بناء الهوية الشخصية والجماعية. فالتراث الماوري ليس مجرد خلفية ثقافية للشخصيات، بل هو عنصر فعّال يؤثر على تطور الأحداث وحياة الشخصيات.

إحدى الرموز الماورية البارزة في الرواية هي الأرض. في الثقافة الماورية، الأرض ليست مجرد مصدر للموارد أو الملكية، بل ترتبط بالهوية الروحية والروابط مع الأسلاف. هذا المفهوم يظهر في حب "كيروين" للطبيعة وعلاقتها بالبيئة التي تعيش فيها. تتسم حياة "كيروين" بالتأمل والعزلة، لكنها تجد نوعاً من الارتباط الروحي بالأرض التي تعيش عليها. مشاهدها في الرواية تعكس تأملاتها حول الذات والهوية والوجود، ويظهر ذلك من خلال تصوير الطبيعة المليء بالتفاصيل الدقيقة والرموز الروحية الماورية.

الماوريون يؤمنون بأن الأسلاف (Tūpuna) يعيشون في الأرواح والطبيعة، وأن التواصل مع الطبيعة هو وسيلة للتواصل مع الأسلاف. في الرواية، هذا الاعتقاد ينعكس من خلال مشاهد الطبيعة المحورية التي تتقاطع مع حياة الشخصيات، حيث يبدو أن الطبيعة تحكم حياة كيروين وجو وسايمون. "سايمون"، رغم أنه يمثل جيلاً جديداً من النيوزيلنديين، يجد نفسه يعاني من التواصل مع هذا التراث بسبب كونه طفلاً أجنبياً تم تبنيه.

الهوية الماورية وتحديات الحداثة:

من خلال "جو"، نرى صورة معقدة لما يمكن أن يُعرف بـ"أزمة الهوية" التي يواجهها العديد من الماوريين في ظل تأثيرات الحداثة والعولمة. يظهر "جو" كشخص يشعر بالذنب والعجز أمام ماضيه، فهو ينتمي إلى الماوري لكنه في الوقت نفسه يسعى للانفصال عن تراثه. يتمثل الصراع في معاناته من الفقدان والصدمة، مما يجعله يتعامل بشكل غير متزن مع "سايمون"، الذي يمثل بدوره شخصية مهمشة لا تستطيع التواصل بسهولة مع العالم من حولها.

يمثل "جو" الصراع الداخلي الذي يشعر به العديد من الماوريين في محاولتهم للاندماج في المجتمع المعاصر مع الحفاظ على هويتهم الثقافية. يعاني من انفصال عن تقاليده وهويته العرقية، وهذا يظهر في سلوكه العنيف وإدمانه على الكحول، الذي يمكن تفسيره كرمز للهروب من أصوله الماورية. هذا الصراع المتجذر يعكس الشعور بالعزلة والاغتراب الذي يشعر به الماوريون في عالم يُسيطر عليه الاستعمار الأوروبي.

كما أن شخصية "سايمون" تعكس تأثيرات العزلة الثقافية على الأفراد الذين لا يجدون مكاناً واضحاً لهم في المجتمع. سايمون يعاني من صعوبة التواصل بسبب فقدانه القدرة على الكلام، مما يجعل شخصيته تمثل جزءاً من صراع الهوية الثقافية. "سايمون" لا ينتمي بوضوح إلى أي من الثقافتين، فهو ليس ماورياً بالمعنى التقليدي، ولا يمكن أن يُعتبر جزءاً من المجتمع الأوروبي.

العنف كرمز للصراع الداخلي:

العنف في الرواية هو أحد الأدوات الأساسية التي تستخدمها هولم لتسليط الضوء على الصراع النفسي والثقافي. يتمحور العنف في علاقة "جو" بابنه بالتبني، حيث يعبر عن إحساسه بالعجز والفقدان من خلال سلوكه العنيف تجاه سايمون. هذا العنف ليس مجرد تعبير عن الغضب، بل هو رمز لصراع أعمق يتعلق بفقدان الهوية والتواصل. جو، الذي يعاني من الفقدان، يجد نفسه عاجزاً عن التعبير عن مشاعره بطرق صحية، ما يجعله يلجأ إلى العنف كوسيلة للتعبير عن ألمه.

العنف أيضاً يعكس التصادم بين الثقافتين الماورية والأوروبية. شخصية "جو" تمثل هذا التصادم بشكل مؤلم، حيث يبدو وكأنه محاصر بين عالمين، غير قادر على الانتماء لأي منهما بشكل كامل. في النهاية، العنف يصبح وسيلة "جو" للتعامل مع إحساسه بالعجز والاغتراب.

الطبيعة ودورها في السرد:

الطبيعة تلعب دوراً محورياً في "الأسلاف"، ليس فقط كخلفية للأحداث ولكن كعنصر رمزي يعكس التراث الماوري. الطبيعة في الرواية تُستخدم كمرآة تعكس حالات الشخصيات النفسية، وهي مرتبطة بشكل وثيق بالهوية الماورية التي تعتبر الأرض جزءاً أساسياً منها. يظهر هذا الربط بشكل جلي في مشاهد تأمل "كيروين" للطبيعة ومحاولاتها لفهم ذاتها من خلال الانغماس في العالم الطبيعي.

في الثقافة الماورية، يُنظر إلى الأرض باعتبارها مصدراً للهوية والارتباط الروحي مع الأسلاف. هذا المفهوم يتكرر في الرواية من خلال تصوير الطبيعة كجزء لا يتجزأ من حياة الشخصيات. "كيروين"، التي تعيش في عزلة بالقرب من البحر، تجد نفسها مرتبطة بشكل روحي مع الأرض التي تعيش عليها. البحر، السماء، والحياة البرية كلها تلعب دوراً في تطورها الشخصي، وتساعدها على التواصل مع ذاتها ومع العالم من حولها.

اللغة والشعرية في الرواية:

استخدام هولم للغة في "الأسلاف" يعكس تأثرها بالتقاليد الماورية، حيث تمزج بين الشعر والسرد التقليدي لتقديم تجربة أدبية فريدة. اللغة في الرواية ليست مجرد وسيلة للسرد، بل هي جزء من بنية العمل. هولم تعتمد على الإيقاع الشعري واللغة المجازية في العديد من المقاطع، ما يعكس تقاليد الماوري الأدبية التي تجمع بين الشعر والغناء والسرد القصصي.

اللغة أيضاً تعكس الانفصال بين الشخصيات. "سايمون"، الذي يعجز عن التحدث، يعبر عن انفصاله عن المجتمع من خلال صمته. هذا الصمت يصبح جزءاً من الصراع الثقافي في الرواية، حيث يعجز سايمون عن الانتماء لأي ثقافة أو لغة. من ناحية أخرى، نجد أن "جو" يستخدم اللغة بطريقة تعكس انفصاله عن هويته الماورية، حيث يبدو أن لغته الأوروبية تحمل آثاراً من صراع الهوية.

الشخصيات وتفاعلها مع التراث الماوري:

كيروين هولمز:

الشخصية الرئيسة في الرواية هي "كيروين هولمز"، التي تحمل أصولاً مختلطة، فهي نصف ماورية ونصف أوروبية (باهيكيا)، تعكس هذه الشخصية البحث المستمر عن الهوية في سياق متنازع عليه. تحمل كيروين في داخلها أسئلة وجودية عن مكانها في العالم، وهي تمثل الإنسان المعاصر الذي يعيش في تداخل بين الثقافات. فنياً، تعبر كيروين عن مشاعر التمزق الداخلي من خلال عزلتها، وتأملاتها العميقة في الطبيعة والموت والحياة.

على الرغم من أن كيروين لا تمارس التقاليد الماورية بشكل واضح في حياتها اليومية، إلا أن ارتباطها بالأرض وشعورها بوجود الأسلاف دائمًا ما يحيطها. في الثقافة الماورية، الأرض ليست مجرد مكان للسكن، بل هي حاملة للذاكرة الجماعية، ومصدر للهوية والانتماء. هذا يظهر بشكل جلي في الرواية من خلال الصور الرمزية التي تقدمها الكاتبة عن الطبيعة، والبحر، والأرض التي تحيط بشخصيات الرواية.

سايمون:

سايمون، الطفل الأبكم، هو شخصية غامضة تمثل البراءة والانفصال عن المجتمع المعاصر. يمكن اعتبار عجزه عن التواصل عبر اللغة العادية رمزاً لانفصال الإنسان عن جذوره وتقاليده، خاصةً عندما يتعلق الأمر بثقافة الماوريين، حيث للغة أهمية قصوى. الماوريون ينظرون إلى اللغة كجزء أساسي من هويتهم الثقافية، وقد فقد الكثير منهم القدرة على التحدث بلغتهم الأم بسبب التأثيرات الاستعمارية.

سايمون، رغم عجزه عن الكلام، يتواصل عبر لغة مختلفة، وهي لغة الطبيعة والحواس. حيث يعبر الأطفال الماوريون تقليدياً عن علاقتهم مع العالم الطبيعي من خلال طقوس وتقاليد تُحاكي القوة الروحية للأرض والبحر. يمكن اعتبار سايمون رمزًا لهذا التواصل البديل، وهو ما يؤكد التوتر الدائم بين الحداثة والاستعمار من جهة، والتقاليد القديمة من جهة أخرى.

جو:

جو، الشخصية الماورية الوحيدة التي تحتفظ بتفاصيل من أصوله، يمثل الصراع الأعمق في الرواية. فهو ضحية للتأثيرات الاستعمارية التي قيدت الكثير من الماوريين وجعلتهم ينفصلون عن جذورهم الثقافية. يعيش جو في حالة اغتراب نفسي وجسدي عن ذاته وعن الآخرين، ويمكن القول إن روايته الشخصية تعكس المعاناة التي مر بها الكثير من الماوريين خلال عملية الاندماج القسري في الثقافة الأوروبية.

رواية "الأسلاف" لكيري هولم ليست مجرد قصة شخصيات متصارعة، بل هي دراسة عميقة للهوية الثقافية والتأثيرات الكولونيالية على الأقلية الماورية في نيوزيلندا. من خلال شخصيات "كيروين"، "سايمون"، و"جو"، تستكشف الرواية الصراع النفسي والاجتماعي بين الهويات المتعددة، كما تسلط الضوء على التراث الماوري وأهميته في تكوين الهوية الشخصية والجماعية.

الرموز والعادات الماورية تشكل جزءاً حيوياً من السرد، حيث تساعد القارئ على فهم عمق الصراع بين الثقافات في المجتمع النيوزيلندي. الطبيعة والعنف واللغة كلها عناصر تتشابك لتعكس هذا الصراع، وتقدم رؤية فريدة للتحديات التي يواجهها الأفراد في ظل تأثيرات الحداثة والاستعمار.

"الأسلاف" تجربة أدبية تستحق التأمل والدراسة لفهم التوترات التي تنشأ من صدام الثقافات، وكيفية تأثير ذلك على الأفراد والمجتمعات.

 

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم