رغم مرور نحو أربع سنوات على ظهور رواية "زاوية الشيخ" لحاتم رضوان، إلا أنها تبدو واحدة من الروايات التي يتم استدعاؤها كلما ظهر على الساحة خبر يتعلق باستغلال رجال الدين لمناصبهم ومراكزهم في أعمال غير إخلاقية، لاتجافي الدين فحسب، بل وتتعارض مع الفطرة السليمة وأبسط قوانين الإنسانية!

شيخٌ معمم ومريدون يلتفون من حوله في كل مكان، أوضاع اجتماعية واقتصادية صعبة تحيط بالناس في كل زمانٍ ومكان، لا تجد لها ملاذًا إلا في اللجوء لهؤلاء المشايخ الذين يعدون بالجنة والنعيم المقيم، يستغلون حاجة البسطاء، من جهة، وجهلهم بأبسط حقوقهم وواجباتهم من جهة، ويقنعونهم بما تيسر من حلو الكلام ويزيفون لهم معاني آيات القرآن وآحاديث السنة، حتى يجدوا أنفسهم منقادين لهؤلاء الشيوخ، لايجدون فكاكًا عنهم، منذ الكلمة الأولى عن "السمع والطاعة"  وحتى الكلمة الأخيرة "من اعترض انطرد" يحكم الشيخ قبضته على النفوس والأرواح فلا  يفلت منهم أحد!

نبدأ الرواية مع "زهرة" شابة متعلمة من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية تقرر أن تخوض تلك التجربة الجديدة، بعد أن فشلت تجربتها في الحب والبحث عن وظيفة مرموقة، تضيق عليها الدنيا، وتفتح لها عوالم الانترنت وصفحاتها بوابة ذلك الشيخ بكلماته المعسولة وثقته الزائدة وحديثه الواثق فتسعى لتلك نحو زاويته التي يحيطها المزيد من الغموض، وهناك ما إن ندخل حتى ينفتح السرد على بوابتين متوازيتين بين ماضي الشيخ وحاضره، بين ما كان عليه وما أصبح فيه، وهنا نكتشف جانبًا آخر يخص ذلك الماضي الأسود الذي ربما لا يعلم عنه أحد شيئًا، إلا ذلك الراوي العليم، الذي يمسك خيوط الحكاية، ويوزعها بالتساوي بين الأبطال.

وهكذا نتعرف على شخصية "كمال اللبان" وزميله "علي الشريف" اللذان يتزاملان في فترة الدراسة، ثم يأخذ واحد منهما زميله للتعرف على الشيخ ذائع الصيت صاحب الكرامات "صفوان" ويتمكن علي فعلاً من الاقتراب من الشيخ ودخول عالمه، وهناك تجذبه "سالمة" وهي شخصية أخرى في الرواية جاءت من الريف واستقر بها المقام في بيت الشيخ وجعلها "أخته" ثم أم المريدين،  تمكن الكاتب من الإمساك بشخصياته والتعبير عنها بشكل متقن، ومع كل شخصية منهم نكتشف جانبً من جوانب تمسك الناس بمثل تلك الشخصيات ودوافع تأثرهم بها، فهاهو يضع علي الشريف في تلك الحيرة:  

(( دارت رأسه بالأفكار والتساؤلات عن مدى ولائه له وخيانته لعهده معه وإيمانه بالطريقة، هل هو حقًا مؤمن بها؟ كثرت خروقاته لها وتراكمت خطاياه في حقها، إخفاؤه الأسرار وكتمانها ، إهماله الأوراد والأذكار، دخول بيته دون إذنه، علاقته بسالمة – أخت الشيخ في الطريقة، لو امتلك يقينًا حقيقيًا وقناعة راسخة بالطريقة وتعاليمها، ما وقع في المحاذير والنواهي وخالف الأوامر والتعاليم التي أقسم على اعتناقها والسير على هداها، دخل إليها من باب الفضول والسياحة والاستكشاف، هل هؤلاء المريدون - لا يستثني نفسه - مجرد دراويش سذج، تركوا عقولهم قبل أن يأتوا؟ يدورون في فلك الشيخ بآلية وبلا تفكير، يمارسون الشعوذة بأمره، يهزون رؤوسهم ويتمايلون بأجسادهم دون معنى ويقفزون في حضرته كالمجانين، ما يقوم به الشيخ حركات وكلمات محفوظة، اتقنها، يسكرهم بها ويسيطر على أفعالهم، ويحدد لهم نمط حياتهم، لو لم يجد من يصدقها ويؤمن بها ويتبع خطاها، ما كان له وجود!!))

تبدو الحيرة حاضرة في أذهان الكثير من أبطال الرواية (ربما باستثناء سالمة)، سواء في ماضي صفوان أو حاضره، ولكن الأحداث تتلاحق وتتطور، بل وتأخد مناحي مختلفة، لم يعد الأمر مقتصرًا على جلسات الذكر والأوراد، بل دخلت فيه أمور الجن والسحر والشعوذة، وانتقلت الرواية في جزءٍ منها إلى رصد ذلك الدجل باسم الدين،  ولا يبدو أن أحدًا يتوقف أمام ما يجري وذلك حتى تنتشر فضيحة الشيخ على وسائل التواصل الاجتماعي، ويتحول ما يجري في تلك الزاوية إلى حديث الناس.

وهكذا بعد أن نتعرف على ذلك العالم وشخصياته، يختار الكاتب نهاية تبدو في كثيرٍ من الأحيان حالمة/ رومانسية لكل تلك الموبقات التي وضع نفسه فيها، ولذلك العالم الذي أنشأه، حيث يتمكن الناس فعلاً من الهجوم على تلك "الزاوية" بعد أن تقوم ما يشبه الثورة عليه، وتطويق المكان الذي يسكن فيه، تبدو تلك النهاية مرضية للقارئ والكاتب ولاشك، ولكن ما نعرفه في الواقع يتجاوز للأسف تلك النهايات، ولا يبدو أن عوالم هؤلاء الدجالين والمشايخ الذين يستترون وراء الدين ووراء جهل العامة تنتهي بتلك الطريقة المثالية.

يبقى أن الرواية _كما يفعل الأدب الجاد _تدق مسمارًا في نعش مثل تلك الحركات والطوائف، كما تلفت أنظار القراء إلى تلك الممارسات الشاذة والغريبة التي يمارسها هؤلاء الذين يدعون أنهم "مشايخ"، بالإضافة إلى أن  الكاتب يشير منذ البداية إلى أن القصة التي اعتمد عليها في كتابة روايته مأخوذة من حادثة يعرفها، بالإضافة إلى ما يثار في مجتمعاتنا العربية بين الحين والآخر حول تلك الممارسات الغريبة والشاذة لهؤلاء العلماء والمشايخ الذين يتبرأ منهم كل دين وفكرة سليمة.

 رواية "زاوية الشيخ" صادرة عن دار النسيم في 2020.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم