رواية "كري جيتكي".. للكاتب سعيد قاسم
"كري جيتكي" العمل الأدبي الذي صدر قبل حوالي ثلاثة أعوام لم يحظَ بالاهتمام المطلوب من الأوساط الأدبية والثقافية الكردية، رغم أهميته الكبيرة وتناوله حقبة زمنية حاسمة في تاريخ المنطقة، وهي الحقبة الممتدة خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر. ومن أبرز ما ورد فيه مقولة حسو رش آغا الشهيرة: "الكلاب ستأكل حواف عصيكم"، التي استخدمها لوصف المصير الذي ستؤول إليه عشيرته بعد وفاته، متوقعاً تراجع نفوذها واضمحلال هيبتها بين العشائر الأخرى، بحيث تصبح بلا قوة تُذكر أو مكانة تُحترم.
ولعل أسباب الإهمال الذي واجهه هذا العمل تعود إلى عوامل عدة، منها عزوف الكثيرين عن قراءة الكتب الورقية في زمن طغت فيه الوسائل الرقمية، فضلاً عن الاصطفافات الفكرية التي قد تجعل الكاتب إما محطَّ اهتمام أو طيَّ النسيان حسب مواقفه وانتماءاته. ومع ذلك، تظل رواية "كري جيتكي" للكاتب سعيد قاسم شاهدةً على عمق المأساة وجذور التاريخ، حيث تحمل في طياتها تفاصيل دقيقة عن حياة عشائر الكوجر وصراعاتهم في ظل لعبة دولية خُطّطت لرسم خارطة جديدة للمنطقة.
تتجلى رواية "كري جيتكي" كصرخة لحقبة زمنية، حاملةً في طياتها آلام عشائر الكوجر وأحلامهم التي رُسمت فوق براري شنكال وزوزان كافاش في وان، ثم طُمست تحت أقدام الصراعات. هناك، حيث الأرض شاهدة على رحلة الصيف والشتاء، تتشابك حيوات البسطاء مع مصالح الكبار، ويصبح الموت تفصيلًا في لعبة دولية بين بريطانيا وروسيا والدولة العثمانية.
حسو رش آغا، ذلك الرجل الذي حمل قلبه شعلة لا تخبو، كان رمزًا للشجاعة التي لا تعرف الانحناء. كان يمتلك "مرارتين"، كما وصفته الرواية، في إشارة إلى جرأته الفائقة التي تجاوزت حدود المألوف. جرأة جعلته يقف شامخًا أمام رياح الفناء، مستعدًا لأن يدفع حياته ثمنًا لصراعات لم تكن عشيرته طرفًا فيها، بل ضحيةً على رقعة شطرنج دولية. كان الموت بالنسبة له رفيقًا مألوفًا، لكنه اختار أن يموت واقفًا، كالشجر الذي لا ينحني.
كانت المجزرة التي التهمت أرواح أكثر من سبعين فردًا من عشيرته جرحًا عميقًا في جسد الرواية، لأنها اختزلت الألم، وكشفت وجهًا خفيًا لصراع يتجاوز الدين والعشيرة، ليغوص في أعماق المصالح الدولية، ويعيد رسم الخرائط بدماء الأبرياء. ومع ذلك، بقيت الرواية حبيسة الرفوف في الأوساط الثقافية الكردية، كلوحة فنية لم تُعلَّق على جدران الذاكرة الجماعية. تلك التفاصيل الدقيقة عن نمط الحياة، عن الخيم التي تحاكي حركة النجوم، وعن الزغاريد التي تمتزج بأنين المآتم، وعن الرحلة التي تبدأ مع زهور الربيع وتنتهي مع زئير الشتاء، كلها بقيت كصدى يبحث عمّن يسمعه.
"كري جيتكي" وثيقة صامتة تنبض بالحقيقة، ونداءٌ للأجيال القادمة كي تنظر إلى الماضي بعين المتأمل، لا العابث. ربما آن الأوان أن تخرج هذه القصة، لتشعل في الأذهان شعلة نقد تعيد إليها قيمتها المستحقة، وتحيي ذكرى الأرواح التي سقطت في زحام الطموحات الكبرى.
0 تعليقات