"نادي قراءة جين أوستن" للأميركية كاري جوي فاولر.. شيفرات القراءة والحب
تشير الأميركية كاري جوي فاولر في روايتها "نادي قراءة جين أوستن" إلى أن الروائية الإنكليزية جين أوستن (1775 - 1817) تتمتع بقدرة غريبة على إشغال الجميع؛ فلاسفة الأخلاق وفلاسفة الحب العذري وغير العذري، والماركسيين، وأتباع فرويد، وأتباع كارل يونغ، والمتخصصين في علم السيميائيات، والهدامين، وأنّ جميعهم يجدون ملعباً مثيراً في ست روايات متشابهة تتناول حياة الطبقة المتوسطة في الريف الإنكليزي. وتلفت إلى أن أدب أوستن يتجدد دوماً عبر الأجيال.
تؤكد فاولر في روايتها (منشورات التنوير، بيروت، ترجمة أمال حلبي، 2018) أن القراءة اكتشاف مستمر متجدد، وأن هناك أعمالاً كثيرة تحرض على حب الحياة، وتنتظر أن يقبل عليها عشاقها بشغف ليكتشفوا الرسائل والشيفرات الدفينة المخفية بين طياتها، وأن هذا ما حصل لشخصيات روايتها التي أعادت اكتشاف أوستن من خلال مقاربة رواياتها وتفكيك ألغازها وتجديد رسالتها المحبة للحياة.
لكل قارئ أوستن خاصة به:
تقدم فاولر في البداية تعريفاً بروايات جين أوستن الستة، تستهلها بتقديم موجز عن رواية إيما التي نشرتها أوستن سنة 1815، ورواية العقل والعاطفة التي نشرتها سنة 1811، ورواية مانفسيلد بارك التي نشرت سنة 1814، ودير نوثنغر التي نشرت بعد رحيل أوستن، ورواية كبرياء وهوى التي تعد أشهر روايات أوستن، ثمّ أخيراً رواية إقناع التي نشرت كذلك بعد رحيل الكاتبة.
وتمهد بجملة لأوستن من روايتها إيما تقول فيها "نادراً ونادراً جداً ما تنكشف الحقيقة بأكملها عبر الأشخاص؛ ونادراً ما لا تبقى أمور خفية نتيجة التورية أو الخطأ"، لتنطلق في فضاء روايتها باختيار عنوان لافت للفصل الأول وهو "لكل منا أوستن تخصه"، وذلك للإشارة إلى التماهي بين شخصيات روايتها وجين أوستن، وحتى أبطال رواياتها.
ست شخصيات تقدم قراءاتها لروايات أوستن الستة في نادي القراءة، ويكون استحضار أوستن في كل التفاصيل، والسؤال عما كانت ستفعل لو كانت في الوقت الراهن، أي تعمل على استدراج شخصية أوستن وبعثها بطريقة روائية، واستنطاقها، وتلبيسها بعض ردود الأفعال التي تفترض أنها كانت لتأتيها لو كانت حية معاصرة.
تستنطق فاولر شخصيات المنتدى وتجعلها تتحدّث بصوت واحد، تراها تقول على ألسنتها: نحن الستة – جوسلين، برناديت، سيلفيا، آليغرا، برودي، وغريغ – نشكل قائمة منتدى جين أوستن الأدبي في مدينة ريفر سيتي في منطقة سنترال فالي في كاليفورنيا، واجتماعهم الأول كان في منزل جوسلين.
تذكر فاولر أن بطلتها جوسلين التي أطلقت فكرة المنتدى الأدبي واختارت أعضاءه بكل عناية، ترى أن أوستن كتبت قصصاً رائعة عن المغازلة والحب مع أنها لم تتزوج أبداً. وتلفت إلى أنه قد يخطر في بال جوسلين في صباحية كل يوم كماً من الأفكار يتخطى ما قد يخطر على بال الكثيرين طيلة أسبوع، وأنها تتفوق على الجميع من حيث طاقتها العملية أيضاً.
وتنوه إلى أنه عندما قالت جوسلين إن من المهم جداً دعوة أوستن إلى حياتنا مجدداً بين الفينة والأخرى، في زيارة تفقدية، ساورت الجميع الشكوك أولاً حول دوافعها الحقيقية، وتردد السؤال عمن قد يجرؤ على استخدام جين أوستن من أجل الوصول إلى غاية سيئة.
برناديت ترى أن أوستن تتمتع بحس عبقري في الظرف والفكاهة، وأن شخصياتها وما يدور بينها من حوار ما زالت تضحك قراءها، على خلاف شخصيات شكسبير التي تستمتع بفكاهتها لكونها فحسب من إبداع شكسبير ولا مناص لأحد من حسن تقدير هذا الإبداع.
سيلفيا ترى أن أوستن المتخيلة بالنسبة لها هي تلك الابنة والأخت والعمة أو الخالة، وأنها كتبت رواياتها في غرفة جلوس مكتظة، وكانت تقرأ كل ما تكتبه على مسامع أفراد عائلتها، غير أن ذلك لم يمنعها من أن تكون مراقبة حاذقة ومحايدة للشخصيات الإنسانية، وأنه كان بإمكانها أن تحب أو تُحَب من غير أن يعكر ذلك وضوح رؤيتها ولا حياد رأيها.
حوافز إيجابية:
تشير فاول إلى أن بطلتها سيلفيا ربما كانت السبب الرئيسي الذي حفز جوسلين على تشكيل نادي القراءة، وأرادت أن تشغلها بنشاط المنتدى عن الألم الذي كانت تعيشه في ظل ظروفها الزوجية الصعبة، وتكون فكرة برناديت المقترحة تشكيل منتدى من النساء فحسب، على فرض أن دينامية اللقاء تتغير بوجود الرجال لأنهم يفرضون رأيهم ولا يسعون إلى التواصل الفعلي مع الآخرين، وقد يسترسلون في الكلام ويتجاوزون الوقت المعطى لهم، بحسب رأيها الذي يلقى هوى لدى زميلتها برودي أيضأً، لكن جوسلين دعت غريغ وهو شاب أربعيني مهذب للمشاركة معهن في النادي، بالإضافة إلى آليغرا ابنة سيلفيا ودانيال.
برودي كانت الأصغر سناً بين المجموعة، وعمرها ثمانية وعشرون عاماً، وروايتها المفضلة إقناع، وهي الرواية الأخيرة والأشد كآبة، وأوستن بالنسبة إلى برودي هي الكاتبة التي كلما أعدت قراءة رواياتها تجدها مختلفة، وقد تجدها مفعمة بالرومانسية ثم تعود لقراءتها بعد مرور سنة مثلاً، فتكتشف فجأة أسلوب أوستن المرح والساخر، وأوستن بالنسبة لها هي تلك المصابة بالمرض الذي ربما يدعى هودجكين، والذي فارقت الحياة على أثره، ولم تكن قد تخطت الواحدة والأربعين من عمرها بعد.
تتماهى الشخصيات مع أوستن، وتتقمصها، تعيش حالاتها وصورها، برودي مثلاً تعتقد أنها قد رأت في الحلم أن أوستن كانت تسير معها في أحد القصور وتطلعها على غرفه، وهي لا تشبه صورة جين المعروفة بل تشبه جوسلين، ولكنها في معظم الأحيان جين، وهي شقراء ومرتبة وعصرية، وترتدي سروالاً حريرياً فضفاضاً.
وبعد أن يمضي أعضاء النادي في رحلات قرائية وواقعية سوية أوقاتاً مليئة بالمفاجآت والاكتشافات وتبادل الرؤى والتصورات، يجتمعون مرة إضافية لتناول وجبة الغداء، وليشاهدوا الصور التي التقطتها برناديت في زيارة سابقة إلى كوستاريكا، وتتعرف هناك إلى رجل لتتزوجه لاحقاً، ولم تقم برناديت بترتيب الصور وتنقيتها من الشوائب بعد التقاطها، وكأنها تظهير للصور الأدبية والمتخيلة عن شخصيات روايات أوستن نفسها بطابع معاصر.
يقترح غريغ بعد الانتهاء من دراسة أعمال أوستن قراءة أدب كاتب آخر، ويقترح باتريك أوبريان الذي يجد أن في بعض قصصه نفحات من أوستن، وأكثر مما يتوقعن. لكن برودي تقول إنهم لو قرؤوا أوبريان أولاً لكان بإمكانهم الانتقال إلى أوستن، ولكن لا يعقل أن يسيروا في الاتجاه المعاكس. وتضيف بلهجة جادة إنهم أدخلوا أوستن إلى حياتهم وها هم إما متزوجون أو في مرحلة المواعدة التي تسبق الزواج، وتتساءل إن كان بإمكان أوبريان أن يفعل ذلك.
تركز الروائية في الختام على ما كانت تشدد عليه أوستن بالقول إن الأهم هو أن تكون لديك عادة أن تعلم نفسك الحب، وهو الذي انعكس على الشخصيات التي دخلت من مرحلة إلى أخرى، بفضل الحوافز الإيجابية التي أثارتها لديهم قراءة أعمال أوستن ومناقشتها وتفكيكها ومحاولة كشف ما بين السطور المخبوءة فيها.
0 تعليقات