غراهام غرين وهواجس الكتابة والوجود
يعد كتاب "تجربتي في كتابة الرواية" للكاتب غراهام غرين مرآة عاكسة للتجربة الأدبية والوجودية التي مرّ بها طوال حياته. هذا الكتاب لا يُعدّ فقط سرداً لتجربته في كتابة الرواية، بل يعكس أيضًا رحلة وجودية مليئة بالتحديات والمفارقات التي خاضها جرين بحثاً عن المعنى والإبداع في عالم مضطرب. ففي هذا الكتاب، يقدم غرين تأملات عميقة حول ما يعنيه أن تكون كاتباً، وكيف يتفاعل الكاتب مع العالم المحيط به من خلال النصوص التي يخلقها.
ما يميز غرين في هذا الكتاب هو قدرته على الجمع بين تفاصيل حياته الشخصية مع العملية الإبداعية. فهو يستعرض كيف كانت الأفكار تنبع من اللحظات العشوائية ومن تفاعلاته مع الحياة والواقع، وكيف أنّ الكتابة لم تكن بالنسبة له مجرد فعل إبداعي بل رحلة داخلية نحو فهم الذات والواقع المحيط. كانت الرواية بالنسبة لغرين وسيلة للهروب من العالم، ومن نفسه أحياناً، أو كما يقول: "رحلاتي ككتاباتي كانت طرقاً للهروب". هنا، تظهر الكتابة كعلاج نفسي، كوسيلة لتحليل الذات والهروب من قسوة الواقع ومن تلك الكآبة التي تلازم الوضع الإنساني.
يؤكد غرين في أكثر من موضع أن الكتابة الروائية هي عملية مليئة بالمفاجآت وعدم اليقين. فهو يعترف بأنه ليس من الكتاب الذين يدونون الملاحظات أو يخططون بشكل مسبق لكل تفاصيل رواياتهم. ويشير إلى أن الشخصيات الثانوية قد تظهر فجأة وتتحول إلى محور الرواية دون سابق إنذار، مما يعكس تلك العشوائية واللاوعي الذي يتسرب إلى عملية الكتابة. ويعبر عن هذا بقوله: "في معظم كتبي، مهما كنت أعرف المشهد الذي أكتبه جيداً، تظل هناك شخصية ترفض بعناد أن تصبح شخصية حية، وتوجد فقط من أجل الرواية".
اللافت في نهج غرين هو تفكيره النقدي حول الكتابة، وكيف يرى أن تطور الكاتب يتطلب وعياً ذاتياً عميقاً وقدرة على الفصل بين الذات والشخصيات الروائية. وتراه في كتابه "تجربتي في كتابة الرواية"، يتناول فكرة أن الشخصيات الروائية هي انعكاس للكاتب، لكنها تنمو وتتحرر منه تدريجيًا. يقول: "الشخصيات الرئيسة في رواية ما لا بد بالضرورة أن يكون لها صلة بالمؤلف، فهي تخرج منه كما يخرج الطفل من الرحم، ثم يقطع الحبل السريّ وتترك الشخصيات لتنمو مستقلة".
كما يكشف غرين عن تعامله مع الكتابة بضمير المتكلم، حيث يرى أن هناك ميزة فنية واضحة في الرواية المكتوبة بهذا الأسلوب، إذ يُحدَّد وجهة النظر بصرامة ولا يُسمح بالانحراف هنا أو هناك. ويعبر عن دهشته من تلك اللحظات التي تتحول فيها الكتابة إلى عمل ذاتي الدفع، يشبهها بعملية إقلاع الطائرة التي تبدأ بسرعة متزايدة على المدرج ثم ترتفع ببطء حتى تشعر بأن العجلات لم تعد تلمس الأرض.
يتضح من قراءة هذا الكتاب أن غرين كان ينظر إلى الكتابة كنوع من الخلق الذي ينبع من اللاوعي. فهو يعتقد أن الكثير من الأفكار والرؤى تأتي من مصدر يشبه الأحلام، وأن الروائيين، بشكل أو بآخر، يعيدون خلق تجاربهم ورؤاهم الداخلية من خلال نصوصهم. فكل رواية، كما يشير، تحتاج إلى "اللاوعي كجوكر" يساعد الكاتب على تجاوز العقبات التي تواجهه أثناء الكتابة.
يظهر في كتاب غرين أيضاً إحساسه الدائم بعدم الرضا عن الأعمال التي ينتجها، فهو يقول: "لم أقتنع قط بكمال رواية كتبتها"، وهذا الشعور بالنقص هو ما يدفعه دائمًا لمراجعة رواياته وتعديلها، كأنه يسعى دائمًا للوصول إلى الكمال الذي لا يمكن الوصول إليه. هذا التوتر بين الإبداع واللا اكتمال، بين الخلق والنقد، يعكس بوضوح تلك الحالة الوجودية التي كانت تلازم جرين طوال حياته.
أما عن العلاقة بين الواقع والخيال في كتابات غرين، فهو يعترف بندرة استخدامه لشخصيات حقيقية بشكل مباشر في رواياته. الشخصيات، في رأيه، يجب أن تكون خيالية تماماً لتتمكن من النمو بحرية داخل النص. ويقول: "من النادر أن أستخدم في رواياتي شخصيات تتطابق مع أشخاص أحياء أعرفهم"، لأن الشخص الحقيقي يشكّل عقبة في طريق الخيال، ويحد من قدرة الكاتب على الابتكار.
يظهر كتاب "تجربتي في كتابة الرواية" كعمل أدبي فلسفي يتجاوز مجرد السرد التقليدي لتجربة الكاتب، لأنّه يعبّر عن رؤية عميقة ومركّبة للتجربة الإنسانية من خلال الكتابة، ويقدم لنا نظرة نادرة إلى داخل عقل وروح واحد من أعظم الكتاب في القرن العشرين.
غراهام غرين يضع أمامنا كتابه كمرآة تعكس تناقضات الوجود، وتكشف عن عمق التجربة البشرية، تلك التجربة التي لا تنفك تطارد الكاتب كما تطارد القارئ، لتجعله دائمًا في حالة من التساؤل والبحث.
0 تعليقات