"الخواجاية".. سيرة روائية مفعمة بالمحبة والذكريات الحلوة عن مصر
القاهرة - أرادت المرشدة السياحية والكاتبة فيموني عكاشة تخليد ذكرى أمها الهولندية في كتاب بعنوان (الخواجاية) بدافع من المحبة والخوف معا لكن يبدو أن ما بدأ شخصيا بإمتياز تحول إلى فسيفساء تكمل الصورة التي كانت عليها مصر والعالم خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
الكتاب الصادر عن دار الشروق بالقاهرة في 311 صفحة من القطع الكبير يستند بشكل رئيسي على يوميات الأم التي كانت تدونها في خطابات مطولة إلى عائلتها باللغة الهولندية على مدى عقود إضافة إلى حكايات وذكريات قصتها على أبنائها الثلاثة ومن بينهم فيموني التي اختارت للكتاب تصنيف "سيرة روائية" وفق ما جاء على الغلاف.
تقول فيموني عن فكرة الكتاب "لما بدأت أكتب هذه الرواية كان عندي شك إنها ممكن تهم أي حد، لأني لما كنت باقول لحد بكتب رواية عن أمي، بيسألني.. مامتك كانت بتعمل إيه؟، فأرد بأنها كانت ست عادية".
وأضافت "الدافع للكتابة كان توثيق حكايتها، كنت عايزة أكتب حكاياتها اللي كانت بتحكيها لنا لأني كنت خايفة أنا شخصيا أنساها، ولأني زعلت جدا إني مسجلتش حكاياتها بصوتها وهي على قيد الحياة".
يستعرض الكتاب على مدى 14 فصلا سيرة جيردا يوحنا زيلهورست من الميلاد إلى الممات عبر رحلة امتدت من هولندا إلى إنجلترا ثم مصر حيث التقت فيها بحب حياتها وعاشت معظم عمرها.
ولدت جيردا عام 1931 في بلدة زوولة بشمال هولندا في بيت بروتستانتي معتدل يعشق الموسيقى حيث كان كل فرد بالعائلة يتدرب على العزف على آلة مختلفة وعاصرت اندلاع الحرب العالمية الثانية في 1939 والأوضاع المعيشية الصعبة تحت الاحتلال الألماني.
بعد سنوات الحرب وبلوغ جيردا الحادية والعشرين قررت الفتاة الشابة مواجهة الحياة بمفردها بعيدا عن العائلة والوطن فانطلقت إلى إنجلترا عام 1951 حيث عملت جليسة أطفال لدى عائلة يهودية وبعدها لدى أسرة مصرية انتقلت معها للشرق.
وفي عام 1954 وصلت إلى مصر حيث التقت بمهندس النسيج محمد أنور عبد الله الذي بادرت قبل الزواج منه بإشهار إسلامها وتعلمت اللغة العربية من أجله ولم تعلم أبناءها اللغة الهولندية حفاظا على مشاعره حتى لا يتحدث أفراد الأسرة جميعا لغة لا يفهمها.
تتركز يوميات جيردا بعد ذلك على أدق تفاصيل الحياة في مصر خلال الخمسينيات والستينيات ومحاولتها التأقلم مع مجتمع شرقي يختلف في عاداته وأفكاره عن الغرب خاصة مع انتقال زوجها إلى مركز بدر حيث أقيم مصنع الكساء الشعبي قبل نقله لمدينة المحلة الكبرى.
وتتذكر هذه الفترة قائلة "ما كان أكثر صعوبة بالنسبة إلي هو الحياة وسط مجتمع العاملين في المصنع، حيث الجميع يتحدث العربية فقط على خلاف مجتمع القاهرة المتنوع في جنسياته وثقافاته، وجدت نفسي في مواجهة مع ثقافة أخرى وعادات مختلفة خاصة أن عاملات المصنع كن ينظرن إلي كأجنبية خطفت منهن رجلا مصريا، يرين أنهن أحق به منها".
تتداخل حكايات الأم مع ذكريات الابنة فيموني التي تقول عن طفولتها في المحلة "أزهو أنني عشت هناك سنوات طفولتي التي كانت بلا شك سنوات جميلة ومختلفة. سكنا في أول تجمع سكني خاص أو ما يعرف الآن بال(كومباوند)، إلا أن مفهوم هذا الكومباوند كان مختلفا تماما عما صار إليه حاليا. شركة مصر للغزل والنسيج كان لها عدة تجمعات سكنية، وهي مشروطة بعمل الأشخاص بها، يستطيع حينها العاملون وأولادهم الاستفادة من كل الخدمات التي توفرها لهم من ملاعب لممارسة الرياضات المختلفة، وحمام سباحة كبير، وناد اجتماعي للعاملين به سينما شتوي ومسرح وسينما صيفية، وكذلك مستوصف ومستشفى كبير، ومحال تجارية".
يمضي الكتاب في رصد تحولات ما بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر وانتقال السلطة إلى الرئيس أنور السادات والتي كان من أبرزها التخلي عن الاشتراكية والاتجاه نحو الانفتاح الاقتصادي وما صاحب ذلك من اضرابات عمالية في المحلة عام 1975 ثم انتفاضة الخبز في 1977.
وبعد وفاة الزوج عام 1977 تصر جيردا على البقاء في مصر وفاء لزوجها وحرصا على تربية أبنائها الثلاثة عبد الله وكمال وفيموني في البلد الذي شهد أجمل ذكرياتها.
تحكي "لم تكن فترة سهلة بأي حال، لكني تعايشت وصمدت، لم يخطر ببالي قط العودة إلى هولندا كما توقع الكثيرون من المعارف والأصدقاء بعد وفاة (أنور). تعجبت من سؤالهم وكنت أرد: مصر بلدي وحياتي".
وبحلول عام 1982 تنتقل الأسرة إلى القاهرة حيث تجد جيردا عملا لأول مرة في متجر للهدايا والحقائب الجلدية ويصبح "بيت الخواجاية" ملتقى رحبا للأصدقاء والأهل وزملاء أبنائها بينما تظل هولندا في القلب لم تنساها أبدا وتتابع أخبارها.
وبمرور السنين وإنشغال الأبناء بحياتهم الخاصة تعود جيردا في حقبة التسعينيات للعيش في هولندا حيث توفرت لها رعاية صحية أفضل وقدمت لها الحكومة منزلا في أمستردام ومعاشا بحكم سنها.
لكن في إحدى زيارات فيموني إلى أمها في هولندا تنبت بذور القلق وتحرص الابنة على استقدام أمها إلى مصر لتمضية بعض الوقت معها فيكتشف الأطباء إصابة السيدة صاحبة الذاكرة الفولاذية بخرف الشيخوخة أو ما فضلت الابنة تسميته "التيه".
تقول فيموني "تساءلت أحيانا إن كان من الأفضل أن تذهب إلى دار للمسنين في هولندا لتلقى رعاية أفضل، ولكني كنت سرعان ما أطرد ذلك الخاطر بعيدا، لم أتحمل أن تبتعد عني، كما أني لم أتخيل أنني سأفقدها قط، كنت أنخرط في البكاء إن تخيلت حدوث أي شيء لها".
تنتهي رحلة جيردا ولا يتوقف تدفق المحبة من سطور مذكرات تلك المرأة التي عشقت مصر وعاشت فيها مصرية صميمة وليست "خواجاية" عابرة ووثقت مشوار حياتها بألبوم صور ضخم مرفق بالكتاب.
أما الابنة فيموني فبعد رحلة إعادة اكتشاف ذاتها بالكتابة فتقول "ظللت طوال عمري أعتقد أن أبي هو من أثر في تكويني، هو من غرس في حب هذا البلد، قد يكون هذا صحيحا إلى حد ما، لكن ما فاجأني عندما عاشت أمي معي السنوات الخمس الماضية، أنها هي من كان لها أكبر الأثر في حياتي، ليس فقط لأنها عاشت أطول منه كثيرا، ولكن لأنها هي من ربطتني بمصر وجعلتني أهوى تراثها وأعشق تفاصيلها الصغيرة".
المصدر: رويترز
0 تعليقات