(إنها المرأة التي قابلتها سنة 1972 بالشورت، وأنا أركض أبحث عن مكان للكتابة والتعبير، حجر داير لا ينبت عليه عشب. فكانت أول بوابة رئيسية في الطريق. طالب في المرحلة الثانوية يتدرب في جريدة "الطلاب"، وهي جريدة سمح بها عبد الناصر بعد مظاهرات ميدان التحرير عقب النكسة 67، وبعد أحكام مضحكة عن خيبة الطيران صدرت 1968. كان ميدان التحرير مكان الثورة منذ مظاهرات النساء في ثورة 19 وحتى ثورة شباب 25 يناير 2011، أما سبب المقابلة فهو كتابها الأسطوري (المرأة والجنس)، كتبت عنه مقال فأصر الأستاذ محمد سليمة، رئيس تحرير جريدة الطلاب، أن أذهب لها وأحاورها، وهكذا ذهبت لها في مجلة "الصحة" بشارع شريف، وقابلتني بجدية معتبرة أني صحفي أمثل طلاب مصر، وأعطتني وقتها وأعصابها، كانت وقتها غادة سمراء بشعر غجري أبيض. وأُعجب جدًا محمد سليمة، رئيس التحرير، بالحوار، ووضعه في صفحتَي الوسط، ورسم له بريشته الساحرة منمنمات ملوّنة. وكان الحوار تحت اسم "الشيء الذي يخفونه بأوراق التوت"، وتلقّى القارئ الحوار بالرضى، وفي افتتاحية عدد مجلة الصحة نوّهت د. نوال بالحوار، وقالت عني (انتظروا صحفيًا لامعًا في المستقبل، إني أراهن عليه). وتطورت الأوضاع، فقد تلقى رئيس التحرير مكالمة من وزير الصحة "محمد محفوظ" يعاتبه في أمر نوال السعداوي، ويقول عنها إنها خارجة على وزارة الصحة ومجلتها "مجلة الصحة" لا تمثل الوزارة، إنها مغضوب عليها؟! وأمام هذه الغلطة المرّة فتحت للوزير الجريدة في ندوة واثنتين، وأربع صفحات جورنال على عددين ليقول ما يريد، وكان مما قاله إنها جندت شابًا أخضر العود للكتابة عنها في المجلات والجرائد، أما دليل الوزير الذي رفعه في الندوة: افتتاحية مجلة الصحة التي تلقيت فيها تهنئة د. نوال على الحوار؟! وخرجت من "الطلاب" ولم أخرج من عباءة د. نوال، أهدتني كتبها، ودخلت بيتها، وعرفت أسرتها وتأنست بهم، وأشركتني في جمعيتها (تضامن المرأة)، وكتبت في مجلة الجمعية "نون" من العدد الأول للأخير، فقد حوربت الجمعية وصودرت ممتلكاتها، وتلك قصة أخرى. وفي بعض مؤتمرات الجمعية اختارتني كمقرر أو أدمن للجنة القانونية بحكم دراستي.)

كنت وأنا أقرأ رواياتها "امرأتان في امرأة"، أكتشف أن نوال السعداوي هي بهية شاهين، ففي الرواية هناك مشكلة للبطلة “بهية شاهين” تكمن في وعيها بأنّ جسدها منقسم إلى جسدين، أحدهما ملك للأعراف والتقاليد الثقافية، بما فيها الأسرة والمجتمع، والآخر ملك للأخرى، امرأة شيطانة، وفعلها طوال الرواية يتمثل في السعي للانتقال بجسدها من دائرة ملكية الآخرين له، ودائرة الانتهاك الرمزي الذي قام به الآخرون ضده، ورغبتها في نجدته والخلاص به، الأمر الذي جعله في نهاية المطاف جسدًا معطلاً. تقول الرواية: "إنها شهوة جديدة أن يكون الإنسان نفسه الحقيقية". فبهية شاهين كانت تخاف أن تكون نفسها الحقيقية، لأنها هي الشيطانة المنفلتة التي تسكنها؟! فالسعداوي تفكك المجتمع العربي، فتحلل الخطاب الأخلاقي وتجد أنه يعتمد على الازدواجية، فالذي يسري على المرأة لا يسري على الرجل، وهذا في قضايا مثل الزواج والعذرية والقوانين الدينية والاجتماعية، وإن القوانين تحقق الظلم بدلًا من العدل، فهي تفرّق بين الرجل والمرأة بسبب الجنس، وتقول إن المجتمع يقوم بهذا لأنه يظن أن المرأة أقل من الرجل.

ولذا جعلت البطلة المركزية بالرواية، بهية شاهين، طالبة طب تبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا، وهي ابنة مسؤول مصري بارز، ولكنه شخصية متخلفة مسيطرة ذكورية مستبدة ضد استقلالها كأي أب رجعي، يقف أمام إرادتها كحاجز ضخم، وأمام قراراتها كلها، ويتحكم في المصروف الذي تأخذه. وعندما يُقبض عليها في مظاهرة طلابية، يكن له القرار الأخير كأب ذكوري في أن الحل بالزواج، فالجامعة مفسدة وليس للبنات إلا الستر بالزواج؟! وتشعر بهية بأنها قُبض عليها مرتين، مرة بسلطة الدولة في المظاهرات، ومرة بالسلطة الأبوية بهذا الزواج، وهذا حضّر لاستدعاء الشخصية الأخرى داخلها "الشيطانة"، فجعلها مضطرة للانفصام بينها وبين بهية شاهين، وكون هذا صراعًا نفسيًا بين الطاعة والتمرد، فرفضت الزواج نفسيًا، لم تسمح لزوجها أن يلمسها، رافضة أن تنتقل ملكيتها من أبيها محمد شاهين لزوجها محمد ياسين؟!

إنّ نوال السعداوي تعلن من خلال هذه الرواية عن رفضها لنموذج المرأة الخانعة المستسلمة التي تختزلها الثقافة المهيمنة في مجرّد جسد يُسخّر لإمتاع الرجل وإشباع غرائزه ونزواته، فهي ترى أن التربية الأسرية تحرّم الجسد، وتحوّل عملية معرفته إلى فعل محرّم. وفي إطار هيمنة قيم الولاء المطلق للنظام الأبوي، فإنّ “بهية شاهين” «كانت تنظر ببرود إلى الأجساد التي يقوم طلاب كلية الطب بتشريحها، باعتبارها عاطلة وفاقدة لوظائفها على نحو يناظر حالة جسدها المشدودة إلى عالم غريب عنه. ورغم أنّ المقارنة بين الجسد الحي والجسد الميت تبدو عبثية، لكن التحليل يجد مسوّغًا رمزيًا له، يتعلّق أساسًا بمستوى التعطيل أو عدم الجدوى، فالجسد الأنثوي عطّلته الثقافة الأبوية، كما عطّل الموت الجسد الممدّد على منضدة التشريح في المستشفى. فهذه المماثلة خرّبت الحس الأنثوي في أعماق “بهية”، وعطلت التحاقها بجنسها، فكانت تراه غريبًا عنها، فهو وعاء حامل لها، لكنه ليس تكوينًا مشكّلاً لهويتها النسوية. فالسعداوي لا تترك الطبيبة، لكنها تكتب الأدب بمشرط الجراح، وتعلن أنه يجب امتلاك الجسد، وحيازة حريته، بحيث تتفكك السلسلة المقيدة له. فحينما يتحرر الجسد من قيوده يحلّق في أثير الحرية، كما كانت تحلم “بهية شاهين” وتريد، وهذا يحقق الانسجام مع الذات حينما يتخطى الجسد هوّة الانقسام على نفسه، بحيث يصبح جسدها ملكية شخصية لا ينازعها فيها أحد. ذلك أنها لما أخفقت في بعث الحياة لجسد عطّلته الثقافة الأبوية، اتجهت عكسيًا إلى مقاطعة هذه الهوية الاجتماعية المكتسبة، والإعراض الكلي عن أنوثتها وجاذبيتها، عبر تقمّصها لشخصية الرجل في حركاته وسكناته من خلال ظاهرة الاسترجال أو التشبّه "بالآخر/ الرجل". تقول بالنص: «كان اليوم هو الرابع، وكان الشهر هو سبتمبر، وكانت تضع قدمها اليمنى على الطاولة الرخامية، وقدمها اليسرى فوق الأرض، وقفة لا تليق على الإطلاق كونها امرأة، لم تكن امرأة بعد في نظر المجتمع، كانت لا تزال فتاة في الثامنة عشرة، ولم تكن ملابس الفتيات في ذلك الوقت تسمح لهن بأن يقفن هذه الوقفة، كنّ يرتدين شيئًا اسمه “الجيب” يلتفّ حول الفخذين بشدة ويضيق عند الركبتين، فإذا بالساقين ملتصقتين دائمًا. أثناء الجلوس وأثناء الوقوف، بل وأثناء السير لم تكن الساقان تنفصلان أبدًا في حركة الخطوات المألوفة للآدميين، وإنما هي حركة دورية غريبة، تنتقل بها قدما الفتاة فوق الأرض، وتظل ساقاها ملتصقتين، وركبتاها ملتحمتين، كأنما تضغط بين فخذيها على شيء تخشى سقوطه».

فالسعداوي تعبث ببطلتها (بهية شاهين)، تقلد الأمازونيات؟! فمن الأساطير التي تشير لصراع الرجل والمرأة، أو للمرحلة الأمومية في حياة البشرية، حيث كانوا ينسبون البشرية للأم وليس الأب، أسطورة إغريقية متداولة عن ”النساء الأمازونيات“، وهي قبيلة من النساء المحاربات، وبسبب عداوتهن للرجال أسّسن عددًا من المدن الحريمية، لا رجال فيها، ويعبدن فيها آلهة أنثى هي (أرتميس). فلهن مجتمع قائم على النساء وحدهن، فإذا أردن الإنجاب أتين بلادًا مجاورة، فَضَاجَعْنَ الرجال وعدن من حيث أتين، حتى إذا وضعن مواليدهن، قتلن الذكور في المهد، وأبقين على الإناث. ويقال إنهن يقطعن النهد الأيمن من الصدر ليستطعن استعمال القوس بسهولة، وبالتالي يتزين بوضع الأعقاد (جمع عقد) على الساقين، ويقال إنهن أول من لبس الخلخال أسفل القدم. وحتى الآن في اليونان يسمّون المرأة الغاضبة أو العصية لزوجها: "أمازونية". ولذا كانت بهية شاهين غير بنات جنسها: "كانت تغضب من عيونهن المنكسرة، وتدرك عن يقين أنها لا تنتمي إلى هذا الجنس". وفي قراءة تقترب إلى ضرب من التحليل النفسي لـ(عبد الله إبراهيم)، يرى انفصامًا صارخًا في شخصية البطلة بهية شاهين، فهي حسب ما يذهب إليه: «تريد طمس الأنثى بمحاكاة الذكر، لكنها أيضًا تريد أن تستقل بجسدها عن عالم يشدها نحو الأسفل، فحريتها مقرونة بانفصال جسدها عن ذلك العالم، وهكذا تتصادم المتناقضات في وعيها وسلوكها، فلا تستطيع تجاوز هذه الإشكالية المدمّرة التي بمقدار ما تدفع بها إلى الأمام، فإنها تشدها إلى الوراء، لتتحول “بهية” إلى تكوين شائه، مزدوج الوجود والهوية، امرأتان في إهاب امرأة واحدة؛ وهكذا تفكّكت الهوية الأنثوية (فبهية شاهين) عند الشهوة (كانت تتقلص وحدها رغم أنفها، وتحس بها وهي تنسحب منها كالروح تنسحب من الجسد). وهي ليست كصبيحاتها (كلمة أنثى كانت حين تصل إلى سمعها ترن في أذنيها كالسبة، أو كالعورة العارية). في زحمة رهانات فاشلة، فالتشبّث بالاسترجال كبديل تحرّري عمّق أوهام الذات وكبّل تطلّعاتها، فانقلبت حرية الجسد الأنثوي من هذا المنظور إلى تصعيد عبثي لواقع لم تفلح في تجاوزه.

فهي أحيانًا تنسى جسدها، تعتبره خرافة من الخرافات التي ملأت رأسها وهي طفلة، ولكن ما أن تلمسه حتى ينتفض انتفاضة قوية كحقيقة مؤكدة - كانت غير مختونة (الختان) بسبب انتقال الأسرة للعاصمة وموت أم محمد الداية بعد أيام من ختان أختها الكبرى - (وحين تقترب أصابعها من عورتها وهي تستحم، تبعدها بسرعة كمن مست يده منطقة مكهربة). ولذا رأى "جورج طرابيشي" أن نوال السعداوي "أنثى ضد الأنثى" فيما تكتب، وكتب بهذا المعنى كتابًا ضخمًا من 300 صفحة، انتهج فيه منهج التحليل الفرويدي، ولمّح إلى التماهي اللاشعوري لنوال السعداوي، فالبطلة "بهية شاهين" في رواية "امرأتان في امرأة" تحمل جملة ملامح لها، فهي طالبة سنة أولى مشرحة، أي عاشت حياة الكاتبة في كلية الطب، وزواجها الأول كان فاشلًا مثلها، وبجانب الأحداث، فالبنية النفسية متقاربة (تكن ازدراء لبنات جنسها، وترفض الانتماء إليهن). وبمنهج التحليل يصل السيد جورج إلى أن بطلات روايات السعداوي: (امرأتان في امرأة - امرأة عند نقطة الصفر - مذكرات طبيبة - الغائب) خطيرات لأنهن مريضات بالشيزوفرينيا والعصاب.

ولأن التحليل لا يخلو من الخلط بين السعداوي وبطلتها، لأنها تتماهى معهن حين تكتب، تصبح السعداوي معقدة بعقدة الذكورة، أنثى لا تريد أن تكون أنثى!! وتحقق بهية شاهين لـ"جورج طرابيشي" نتائج تحليله بتمرد تشرحه الكاتبة عبر السرد، فتقابل سليم "الشخصية الغريبة - فهو طالب طب ورسام وثائر، ولكنه يملك شقة خاصة بالمقطم" - ومعه تحضر المرأة الأخرى، الشيطانة، وتنتصر امرأة العقل الباطن حين تقبل منه بهية شاهين مفتاح شقته بالمقطم. وتأخذنا نوال السعداوي في رحلة لاكتشاف الذات ومعرفتها، وتحقيق التمرد السري في ظل الحبس الاجتماعي الرهيب، وتمارس الجنس مع سليم، فهو الشخصية الوحيدة الذي دخل رأسها ولمس الشيطانة (المرأة الأخرى) كما تسميها. ويحدث انقلاب في الشخصية، وكأنها تحقق ذاتها وما تريد، فتنقلب إلى ثائرة توزع المنشورات على الشعب ليفيقوا ويثوروا، هجرت كل السلطات الأبوية، وانشغلت عنها، تركت بيت أبيها، وهربت من فراش زوجها، ولم يبق لها أمل في حبيبها الذي سُجن، وظل يتنقل بين سجن الاستئناف وطرة لسنوات بلا عدد.. وهنا يقف النقاد مع الرمز: فبهية ترمز لمصر، أو أن بهية أدركت أن حريتها وحقيقة شخصيتها لا تكون إلا في وطن مستقل حر. ولكن بهية تنهي الرواية بالكلبشات في يدها، وهي في طريقها للسجن، فأي بهية حبسوا؟ أي واحدة من الاثنين؟!

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم