مثل كثيرين ممّن اهتمّوا بالأدب، وجدت نفسي دائما إمّا منغمسا في قراءة كتاب جديد، أو أشتغل على كتاباتي أو أتحدّث مع أحد الأصدقاء حول تفضيلاتنا الشخصيّة للأدباء ولرواياتهم وحتّى لشخوصهم المتخيّلة ولأفضل الحبكات التي شدّتنا. هذا بالإضافة على الاطلاع على ما يُنتج حول العالم من أفلام ومسلسلات وإنمي يابانية. وفي الآونة الأخيرة، بات لديّ فضول كبير لمشاهدة الوثائقيات والبودكاست، من دون أن أتنازل عن مشاهدة حوارات للأدباء وصنّاع السينما من مخرجين ونقّاد، ولا يمكنني أن أنسى أيضا متابعة بعض قنوات اليوتيوب المختصّة في المراجعات والتي أفدت منها كثيرا. وكما هو واضح من نوعية اهتماماتي، فإنّ الوقت الذي أنفقه يوميّا من أجل كلّ هذا يبعد عنّي شبح الملل والرتابة.

أعتبر نفسي محظوظا لأنني أستيقظ كلّ يوم للقيام بأشياء أحبّها.

في مجال الأدب، هناك نصيحة ذهبية تُمنح دائما للروائيين الشباب وهي: اقرأ كثيرا.

وكروائيّ مازال يبحث عن صوته الخاصّ وأسلوبه، فأنا أمتثل لهذه النصيحة مع الاعتراف بوجود توجّس لا فكاك منه، يتعلّق بتلك الأصوات التي قد تتسرّب إلى ما أكتبه. ولهذا، فإنّني أكتب بذهنية صارمة وأفتّش عن كلّ الأشياء الدخيلة على أمل أن تنبجس كلماتي الخاصّة وتظهر على ملفّ الوورد، خالية من الشبهات ومن إفرازات كتّاب آخرين، ومع أنّ هذا لا يزال بعيد المنال، إلّا إنني لا أتساهل في هذه المسألة.

نشرت ثلاث روايات ومازلت أصنّف نفسي كقارئ. فالقراءة أتت أوّلا. اندهشت أوّلا قبل أن تراودني فكرة إدهاش أحد آخر غيري. هكذا أصف الأمر بمثل هذه التراتبيّة والبساطة.

بدأت القراءة في سنّ مبكّرة. في عمر السادسة. الآن وأنا أسترجع تلك الذكرى القديمة يبدو الأمر وكأنّ القدر قادني إلى اكتشاف أوّل قصّة على نحو غير مألوف كي أحتفظ دائما بهذا الشعور الجوّاني الذي لا يوصف. وكدأب الأشياء التي يعجز الإنسان عن وصفها، فهي تظلّ وتصمد طويلا في الذاكرة. هناك حميميّة وشيء مرح ينتابني في لحظة التذكر هذه.

في عائلة مكوّنة من عشرة أنفار، الانتباه لما قد يفعله طفل متسلّل ليس بالأمر السهل. أذكر أنّه العام 1993 تقريبا، والحياة في ذلك الوقت لم تكن تشبه الحياة في أيّامنا هذه. لم تكن هناك محطات تلفزيونية كثيرة. الراديو يبثّ طيلة الصباح أغنيات صليحة وسيدي علي الرياحي وبابا الهادي الجويني وعبد الحليم وأم كلثوم وصباح فخري. تصدح الألحان يرافقها صوت الأواني في المطبخ وحركة أمّي وسبعة أبناء آخرين.

لم يكن لديّ الكثير لأفعله، ولطالما رغبت منذ الطفولة في فعل أشياء كثيرة. الملل قد يدفع أنضج العقول لاختراع الضلالات والأفكار السيئة، لكن في عمر الستّ سنوات لم أكن أفهم أصلا ما الذي تعنيه عبارة فلان ناضج. كلّ ما عرفته عن الحياة بضع معلومات صغيرة تافهة، لكنّ الأشياء الصغيرة التافهة كانت أروع ما في هذا العالم. أبي لم يعد بعد من العمل. أمّي تدير شؤون المنزل كلّه، دفعة واحدة وكأنها نصف إله. غرفة النوم خالية. وأنا ها هنا أخطط.

الملل عدوّ قديم يا رفاق، وأمام أعدائه القدامى دائما ما حسب الإنسان نفسه خبيرا. ولأنه عرفهم من قبل، ظنّهم مفهومين. الملل معلم عظيم أيضا. طاوعه وانقد له وانظر إلى أين قد يأخذك. بعض العباقرة الكبار تتلْمذوا على يديه وكذلك أعتى المجرمين. أمّا أنا، فكنت مجرما ضئيلا وقتها، أتهيّأ لارتكاب جريمتي الأولى.

في غفلة من الجميع، انسللت بنعومة إلى غرفة النوم. اتّجهت إلى صندوق السرير. رفعت مسماري الباب المربّع حيث تُخبّأ الأشياء الثمينة مستعملا أداة حادة. مددت يدي، وبدل التقاط لوح الشوكولاتة الذي أتيت من أجله أمسكت بكتاب مهترئ. سحبت يدي ونظرت. الغلاف أحمر والصفحات الداخلية صفراء والخطّ دقيق. في غرفة شبه معتمة جلست أقلّب الورقات ونسيت بدافع مجهول السياق. سياق التسلل ومحاولة السرقة وتداعياتها. انغمست كمجذوب في عوالمه السردية العجائبية، وقصصه التاريخية وحكايات العفاريت وقوم نوح والعملاق الذي بلغ الطوفان كعبي رجليه، والأفعى التي تحرس خاتم سليمان في الكهف البعيد، وبطولات سيدنا عليّ ابن أبي طالب وهو يلاحق الجان وصولا لقصة الخلق وأطوار رحلة تميم الداري في الجزيرة النائية ولقائه بالدجال والدابة الأهلب.

بعد هذا الاكتشاف اللذيذ بأشهر، تحديدا في العطلة الصيفية، أرسلني والدي إلى الاصطياف على شواطئ مدينة الزارات بالجنوب الشرقي. أثناء الرحلة، في الباص، جلست مع صديقين لي طوال الوقت، وبدافع غير معلوم رحت أحكي لهم مختارات من حكايات ذلك الكتاب.

تلك الأوقات كانت مرحة، بسيطة، وبالكاد انتبهت لتأثير قراءة حكاية. الآن، في عمر السادسة والثلاثين أرى جيّدا ما حصل. أدرك الآن أنّني في سنّ مبكرة جدّا مارست الحكي وتلقّيت مكافأتي عليه أيضا. وأقصد بالمكافأة نظرات الدهشة تلك في عيني صديقيّ، وسؤال، كيف تعرف كلّ هذا؟ وأخبرنا المزيد..

قد يظنّ كثيرون أنّ هذه المكافأة سخيفة ولا تستحقّ الاحتفاء لكن صدقوني، إنها تستحقّ.

في رحلة الباص تلك، لاحظت ما الذي يمكن أن يمنحه لي حكي حكاية، ولا أخفيكم، لم أكن أحلم بشيء أفضل. هذا الشعور الجديد، لم أختبره من قبل، ولم أختبر بمرور السنوات شعورا أفضل.

أعود لذلك الطفل، إلى ثلاثين عاما مضت فأبتسم. أراه الآن. جالسا على الجليز المرقّط، نحيفا وبشرته مطليّة بسمرة الجنوبيين الذين يقضون أغلب الوقت في الشوارع يلعبون كرة القدم أو في الجبال يصطادون الطيور. منغمسا في القراءة، غير مبالٍ، شارد الذهن يقلّب الصفحات، وعلى نحو مفاجئ يُفتح الباب ويلقى القبض عليه ويُفضح تسلّله. لقد أمسكوا به. أرى كيف انكفأ على نفسه مفتّشا عن كذبة ليبرر فعلته.

هذه الذكرى الحميمية القديمة، دائما ما جعلتني أتساءل: لِمَ ساورني أثناء قراءتي الأولى لكتاب شعور متضارب من المتعة والارتباك؟

اليوم، بعد مرور كلّ هذه السنوات، لا أملك إجابة حقيقية، لكنّني بفضل القراءة والحسّ الذي بثّته فيّ والوعي الذي تنطوي عليه التأمّلات والتعمّق في تجارب غيري من الكتّاب والروائيين، أجد مرتكزا يمكنني الاتّكاء عليه لأضع هذه المعادلة الصغيرة:

إن كان الحكي هو ما أبقى على حياة شهرزاد فالانغماس في الحكاية والانبهار بها هو الذي سلب شهريار القدرة على القتل، ولعلّه بمرور الوقت فقد رغبته فيه أيضا.

شهريار قاتل النساء تُلجمه الحكاية، تُربكه وتستحوذ على انتباهه لتخمد شروره الداخلية. تعلّمه الحكاية الانتظار. لم يكن انتظارا سهلا بطبيعة الحال، فكم من مرّة خلا إلى نفسه مرتبكا، وبارتياب ينظر إلى شهرزاد نظرة شك، وقد يقول في نفسه: هذه اللئيمة تتلاعب بي.

ويهمّ بإزهاق روحها ثمّ يتراجع. وقد يسأله سائل: لِم تتراجع أيها الملك؟ فيجيب: الحكاية لم تنتهِ بعد. ويجلس شهريار مرتقبا الغسق.

وكما ترون، فالحكاية خطيرة جدّا وقويّة، ولعلّها لو كانت مألوفة ومقدَّرة منذ البدء لربّما لم يهلك هابيل، ولما جاء ذلك الغراب ليرينا كيف ندفن أحبابنا، ربّما ما جاء ليعلّمنا هذه العادة البشرية الأكثر رعبا.. ولعلّ جدّنا القديم بات أكثر تعاطفا وتفهّما وتريّثا، وكذلك ذرّيته. "فنحن الذين خرجنا من صلب قابيل"، أُفهِمنا بأنّ العاقبة يقرّرها من يمسك البلطة بيده أي من لديه سلطة تحديد من سيعيش ومن سيموت.

قد تتلخّص مأساة هابيل من وجهة نظر شاعرية غير مألوفة في ندرة الحكايات في ذلك العهد، وكما تعلمون فإنّ الملل محرّض من الزمن القديم، معلّم باحث عن العظماء والمجرمين.. وسريعا تتلمذ الجدّ على يده.

عندما سُئلت غداة نشر روايتي الأولى عن القراءة سكتّ بدافع الرهبة. لم تكن تحضرني إجابة جيّدة.

بعد اطّلاعي على عشرات المقالات والحوارات التي أجاب فيها روائيّون وفنّانون وشعراء عن السؤال ذاته، باتت رهبتي أكبر، لكن، هذا لا يعني التهرّب إلى ما لا نهاية. أظنّ أنّ سرد هذه القصّة يقدّم نوعا ما إجابة، فاليوم وأنا أستحضر الذكرى الشفافة التي تبدو وكأنها حدثت للتوّ، أرى القراءة وأجواءها تشبه ذلك التسلّل الطفولي لغرفة النوم. تشبه الاشتهاء البريء للوح شوكولاتة مخبّأة والتعلّق بقصّة مثيرة. تلك المفاجأة غير المتوقعة نزعت الرتابة عن الأيام، وقلّصت ساعات الملل وأعادت اختراع مسارات جديدة غير خطّية وغير مكررة. إنها تلك الدهشة التي اقتيدت إليها إليس الساقطة في حفرة الأرنب، والصبيّ ديغوري المنتقل إلى عالم نارنيا بمجرد التقاطه لذلك الخاتم الأصفر. وذاتي القديمة التي كادت ترتكب جريمتها الأولى.

في رواياتي الثلاث، يدفع حدث ما شخصيّاتي للقيام بخطوة جريئة تناقض تماما خطّتهم الأصلية. هناك شيء سيء يحدث، ومن ثمّة تبدأ الحكاية. فالأشياء السيئة محرك جيّد وقد تقود إلى اكتشافات رائعة، كما قادتني السرقة للقراءة. أفكر حاليّا بابتداء روايتي الجديدة بحدث رائع. يجب أن أبدّل المنظور. كيف يمكن لحدث سعيد أخذنا في رحلة تستحقّ وقت القراء.

هل تعتبر النجاة من الموت خبرا سعيدا! ستكون هكذا البداية. شخص ما ينجو من موت أكيد، لا لأنّه محظوظ كما قد يُظن، بل لأنّ الحياة لم تنتهِ منه بعد.

إنّ الميل إلى القراءة والانغماس التامّ بوعي، والاختيار الطوعي لهذه العزلة المحبّبة إنّما هو سعي دائم ومتواصل بحثا عن اليوتوبيا. فاليوتوبيا تقبع هناك، وبيني وبينها هذا العدد اللانهائيّ من الكتب. ويوما بعد يوم، كتابا إثر آخر، تنضج اليوتوبيا في الأفق وتسحبني إليها نحو البعيد.

ذلك الطفل ابن الستّ سنوات يكبر من الخارج. يتشكّل للعيان مقلّدا أطوار النموّ الاعتيادية وكأنها آلية دفاع لحماية كلّ ما هو جوّاني لطيف. حماية الدهشة والفضول والبراءة. فالعالم يهوى التماثل وسرعان ما سيعثر على طريقة لسلب الطفل أشياءه اللطيفة تلك. كلّ شيء ينمو، الأفكار، التوجّهات، الصمت ينمو أيضا والتأملات. في النهاية أحتاج لحسّ المسؤولية لأقرّ بأنّ الواقع غير مرضي، فأراني أتوجّه نحو ابتكار حكاية أو قصّة لأعيد لهذا العالم شيئا من طفولته، وعبر الاستعارة أحتجّ على النقصان وأشير إلى تلك الإمكانات المتجاهَلة وإلى تلك الأمور التي فقدناها طوال الطريق.

الحكايات شيء حميد يا رفاق. إنها تنمو كالأعشاب المفيدة. يزرعها أولئك الحكّاؤون الكبار، والصغار على حدّ السواء. القطاف هو الفعل الحيويّ والأكثر شاعرية يمكن فعله إزاء حكاية ناضجة. فهي ليست كنباتات الزينة. إنها حيّة وحرّة ومتدفّقة. إنها كصلاة البذور المدفونة تحت الأرض. تنادي الشمس. تناديها الشمس، فترسل الجذور إلى أسفل وتدفع سوقها باتجاه النور. فإن كانت الكتب والحكايات يوتوبيا القراء فالشمس هي يوتوبيا البذرة.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم