في عالم يتمازج فيه أثر الأسفار مع مفردات البيئة المحلّيّة، تكوّنت تجربة "نجاة عبد الصمد" في الكتابة الروائيّة والسرديّات والترجمة مترافقة مع مهنتها كطبيبة نسائيّة، وسواء أكان السفر من أجل الدراسة أو العمل أو ـ كما في رحلتتها الأخيرة ـ مغادرة لوطن يهدّد سلام من يشهر رفضه، فقد منحت الأسفار لقلمها خصوصيّة متفرّدة.

"نجاة عبد الصمد" المولودة عام 1967 والتي طبع لها ثماني كتب ما بين تأليف وترجمة، تحكي لموقع "الرواية" عن علاقتها بالكتابة والترجمة، وعن شغفها بالقراءة وعشقها لمهنة الطبّ في حوار يشي بدفء الكاتبة وشفافيّتها، هيّا بنى إلى الحوار:

. بدأتِ بتجربة الكتابة من باب الترجمة ثم طبعتِ روايتك الأولى “بلاد المنافي” عن دار رياض الريس، هلّا حدثتنا عن قراءاتك الخاصّة والقراءات التي ساهمت ـ في سياق ترجماتك عن الأدب الروسيّ ـ في بلورة تجربتك الروائيّة؟

أستطيع تعريف نفسي كإنسانة، ومن قبل أن أصبح طبيبة وروائية: لستُ إلا خلاصة ما قرأت. القراءة هي البحر العظيم وكنتُ وسأظلّ أتدرّب على السباحة فيه.

. طبعتِ روايتك الأولى "بلاد المنافي" قبيل انطلاق الثورة السورية 2011 ثم تتالت أعمالك اللاحقة ما بين السرديات والرواية "غورنيكات سورية"، "في حنان الحرب"، "لا ماء يرويها"، "منازل الأوطان"، "خيط البندول". كيف تصفين تجربتك الروائية الأولى بالقياس إلى باقي أعمالك، وهل كان لقيام الثورة أثر على تجربتك الإبداعية؟

صدرتْ "بلاد المنافي" في تشرين الثاني 2010. عدتُ مؤخراً إلى قراءتها بنفسي، حاولتً الإطلالة عليها بعين القارئ، وبدا لي أنّني على الأغلب كنتُ فيها نموذج الروائيّ الساذج أكثر منه الروائي الحسّاس كما وصفهما أورهان باموك في كتابه الذي يحمل هذا العنوان، ولم أكن وقتها أميّزه. كنتُ فيها على سجيّتي، أكتب بارتياحٍ ما أريد قوله. لم تتعبني كما كلّ ما أتى قبلها، واحتفى بها القرّاء وكثيراً ما قيل فيها إنها لا تبدو عملاً روائياً أول. أشكر القرّاء على رأيهم إنّما أرى اليوم بوضوح كثيراً ممّا ينقصها، فلم أجتز جميع المطبّات التي يقع العمل الأوّل فيها عادة قيام الثورة لم يؤثّر في كتابتي وحدها بل وفي وعيي كلّه. كان مفصلاً فارقاً بما لا يقاس، حتى إنني كتبتُ في نهاية “بلاد المنافي”: يتبع.. ولم تأتِ هذه الـ (يتبع) حتى اليوم. “غورنيكات سوريّة” و”في حنان الحرب” جاءتا حَدَثاً كتابياً صنعه الحال السوريّ الذي أصبحنا عليه، ثم وجدتُني منقادةً من داخلي لكتابة “لا ماء يرويها” التي تبعتُ فيها ندائي الداخليّ.. وهكذا.

. ما هو التمايز الذي عايشته بين تجربتك كمترجمة وبين تجربتك في الكتابة الروائية؟

لا استطيع تسميته تمايزاً. على قدر معرفتي، منحتُ للترجمة وللكتابة كلٍّ على حدة، ما يحتاج كل فنٍّ منهما من أدوات.

. حصلت روايتك المعنونة “لا ماء يرويها” على جائزة كتارا. هل كان لهذه الجائزة أثر على قلمك في الروايات التي تلتها، وما هو الدور الذي تلعبه الجوائز الأدبية في تطوير التجربة الإبداعية عند الكاتب من وجهة نظرك؟

نعم، الشعور بالمسؤولية عن كل حرفٍ وفكرةٍ أكتبها، هذا الشعور حاضرٌ من قبل أية كتابة، لكنّه من بعدها تكثّف وعلا سقفُ معاييره، لا أستطيع تسميته تحدٍّ للذات، يمكن القول إنه تحفيزٌ على القراءة أكثر، والتدقيق أكثر في اختيار الأفكار، واختلاف زاوية الرؤية في طرح الفكرة نفسها. الجوائز تقديرٌ وانتشارٌ أوسع ومقروئيّةٌ أكثر، وهي على حلم كل كاتب، ما جدوى الكتابة إن لم تعد للتخلّق من جديد على يد القارئ؟

. تتحدّث روايتك الأولى “بلاد المنافي” عن الواقع المرير الذي يعيشه أبناء الوطن في بلاد الاغتراب. ترى لو أتيحت لك فرصة كتابتها في الوقت الراهن في ظل ظروف التهجير القسريّ الذي يعاني منه أبناء المأساة السورية، فهل تعتقدين أنك قادرة على قول أكثر مما  قلتِ حين كتبتها في المرة الأولى؟

من هذه الزاوية تبدو “بلاد المنافي” كشهادةٍ على أحد الأسباب التي صنعت الثورة، تقول "أم سراج" في الرواية لابنها: “بلادنا بلاد اغتراب”. لماذا قدرُنا أن يكون الاغتراب للرزق أو للتعليم هو الخيار شبه الوحيد لغالبيّة البشر ليحظوا بأدنى مقومات الحياة الكريمة، ولو أتيحت لي الفرصة لن أعيد كتابتها، هي بنت زمنها وظرفها وابنتي كما كنتُ يومها، وتبقى أول نتاجي الذي تعلّمتُ بفضله الكثير. لو وجدتُ فيّ رغبةً ملحّة للكتابة في الموضوع نفسه، سوف أخطّ روايةً جديدة برؤىً تبني على الأولى وتحاول إكمالها، وتندمج الروايتان فيما بينهما ومع باقي أعمالي فيما يمكن تسميته، مجازاً، المشروع الأدبي.

. هل توافقين على تسمية الأعمال التي كتبتها أقلام نسائيّة بالأدب النسويّ، وكيف تستشرفين مستقبل الرواية النسويّة في العالم العربي؟

سأجيبك كيف أنظر إلى الأمر شخصياًّ: أدب قضيّة النسويّة هو إحدى موضوعات الأدب، يكتب فيه رجال ونساء يتبنّون هذه القضية، وليس من شروطه أبداً أن تكون كاتبتُه امرأة، أعتقد أنّ ثمّة فروقاً جليّة في الطريقة والأدوات وزوايا الرؤية التي يتناولها الكاتب أو تتناولها الكاتبة في الموضوع نفسه، وقد لحظتُها في معظم ما قرأتُ من رواياتٍ كتبتْها نساء، بحيث أحدس بجنس الكاتب/ة في كل مخطوطٍ مغفل الاسم. النسوية قضيّةٌ وسوف تستمرّ الكتابة عنها وحولها ما دامتْ لم تُنجَز، وحتّى بعد إنجازها سوف تستمرّ الكتابة عنها لتوجيه الضوء إلى جذورها وتحوّلاتها وتقدّمها، وبناء خلاصات. 

. كان المرحوم شكيب الجابري طبيباً وكاتباً وأنت أيضاً لا تزالين تمارسين مهنة الطب من دون أن تتوقّفي عن الكتابة، فهل تعتقدين أنّ ثمّة وشائج خفيّة بين مهنة الطبّ وعالم الكتابة؟

لا أملك جواباً قاطعاً، أقول دوماً: أجمل حظوظي في الحياة أنّني طبيبةٌ ثمّ روائية، كلتا المهنتين تأملٌ وحكمةٌ وفنّ ورسالة عالية المسؤولية ولا تقبل الأداء الركيك، وكلتاهما عندي شغف، يتنازعان فيما بينهما ويتفقان عليّ، عقلي ينتصر للطبيبة فيّ، ويسرقني هواي إلى الأدب لأحيا أبدًا في عالمين: أوّلهما المعاش وثانيهما الموازي، حيث أخلق شخوصًا متخيّلة، قد تقوى علاقتي بها كما هي مع البشر على الأرض، وربّما أقوىوكلتا المهنتين أنانيّة، تريد لنفسها كل شيء، وبالمقابل تربّي وتصقل وتُعلّم الانتباه.

. هل لديك طقوس خاصّة تحضّرين نفسك فيها للجلوس إلى طاولة الكتابة، وهل هناك لحظة خاصّة تستدعيكِ لصياغة رواية جديدة، أم أنتِ من يستدعي اللحظة وقتما تشائين؟ 

الرواية بالتحديد، الفنّ الذي أجد نفسي منقادةً إليه، تحتاج إلى انضباطٍ والتزام. تسألني الآن فأستعيد في ذهني كيف أعيش تلقائية أيّامي مع الكتابة. أفيق باكراً جداً، أدوّن سريعاً على أوراق صغيرةٍ كلّ فكرةٍ أو جملة قلّبها رأسي أثناء النوم، أستمع إلى فيروز أو نصري شمس الدين بينما أحضر قهوتي، أجلس إلى طاولتي، أفتح كومبيوتري، وأتابع الكتابة من حيث توقفتُ أمس، ألتزم بها كعملٍ صارم لساعات، طالما التركيز حاضر.. خارج أوقات الكتابة أحمل أينما كنت وفي كل وقت ورقةً وقلماً، أكتب رؤوس أقلامٍ حول كل فكرة تعبر. خارج أوقات العمل الطبيّ، أنا أعيش فعلاً في عالم الرواية، وقليلاً ما أخرج منه..

 . ما هو العامل الحاسم في دفع الكاتب إلى الشروع في كتابة رواية جديدة، هل هو الفكرة المبتكرة، أم الحكاية غير المطروقة، أم الشغف والرغبة، أم جميع ما سبق يعتبر عاملاً ضروريا للكتابة؟

شغفه، نداؤه الداخليّ، دويّ الفكرة في رأسه. ولن تتجسّد الفكرة إلا بحكاية شخوصٍ وحبكة علائق بينها. الكتابة هي هذا كله معاً.

. هل تعتقدين أن للمرأة السورية صوتاً خاصّاً في عالم الأدب يتجلّى في كتابتها، وكيف للأدب أن يعكس تجارب النساء السوريّات في سياق التحديات التي يواجهنها اليوم؟

ليس المرأة السورية وحدها، للكاتبات النساء صوتهنّ الخاصّ في رصد تفاصيل الحياة وموضوعاتها الكبرى. ولا يعني الأمر هنا أيّاً من صيغ التفضيل سلباً أم أيجاباً. إنّه نكهةٌ خاصّةٌ ومضافة، تصنعها أقلام النساء، جبلةٌ من الموهبة والعاطفة والحدس النسائي والمخزون الثقافيّ والاجتهاد في نبش الزوايا الخفيّة. على أن يكتبنها بفنيّاتٍ عالية، تصوغ الجمال والمعرفة معاً وتصبّ في أنهار الأدب، حيث تتلاقى أصوات الجميع. ولا يختلف الأمر في حالة المرأة السورية إلا بكونها ابنة هذه البيئة، ترصد واقعها الخاصّ، وتستثمر رؤاها الذاتيّة حول ماضيه ومآسيه الحاضرة، وعينها على نقاط الضوء للخروج من النفق. كلّ ما عليها أن تكتب أدباً جميلاً ورفيعاً.

. ما هي مشاريعك المستقبلية في الكتابة الروائيّة، وهل هناك رواية جديدة قيد الإنجاز؟

مشروعي الأكيد أن أستمرّ في الكتابة. رأسي يطفح بأفكار لكتب  قادمة، على أمل أن يتسّع لها الوقتُ والهمّة. أكتب الآن في روايةٍ جديدة قاربتْ أن تكتمل، تستكمل ما سبق وكتبت عن مجتمع السويداء، بإنسانه ومجتمعه وبيئته وأثر جغرافيا المكان، منذ بدايات القرن العشرين حتّى أيّامنا. أنطلق هذه المرّة من فكرة الشقاق بين العلم والدّين، انغلاق البيئات الدينيّة المتشدّدة على  التعليم، ومنها ينطلق فضاء هذه الرواية، بمعظمه، إلى قارّةٍ أخرى، وسوف تكون جزءاً أوّل أستكمله في روايةٍ تتلوها، فضاؤها ألمانيا حيث أنا الآن.  أشتغل أيضاً على كتابٍ أجمع فيه مقالاتٍ أدبيّة، موضوعها مزيجٍ من الطبيّ والاجتماعيّ.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم