في مطار أوسلو غاردرموين التقتْ خطوط رحلتي في نقطة واحدة، نقطة لا رجوع، تلاشت فيها آمال زوجتي، فَهَمَسَت بصوتٍ مخنوق:" كل شيء سوف يكون على ما يرام، فليباركك الربُّ ويحرسك "، ثمَّ رسمت إشارة الصليب على صدرها، وابتسمت بصعوبة.

ضممتُ رأسها إلى صدري وابتسمتُ أيضًا، لكنَّ تونيا عادت وتنهدت قائلة:

"لا جدوى...

يُلزمك إحساسٌ تعويضيٌّ،

أنت صانع أحلام،

ما زال قلبك يهفو إلى حرائق بغداد".

 هذه إشارةُ إلزامٍ لا تخدع، تلويحةٌ مهلهلةٌ للرحيل، نهايةٌ موجعةٌ.

قبل هذا الختام، رأيتُ أوسلو كما ينبغي.... عروسٌ فاتنةٌ مُشعَّة، تعزف لحن الوداع.

بعد إشارة زوجتي الرؤوم، جَهَمَتْ أكدار بغداد.

***

 ودعتُ مروج الآلهة، أعوامي النرويجية الزاخرة بالاحتفالات والمناسبات والتجوال، و.... أغلى جوهرتين نفيستين.. زوجتي "تونيا"، وابنتي الحبيبة "آيلا".

تلك إشارة إلزام أخرى.

جلستُ في مقعدي بجانب النافذة. بدت أوسلو خضراء تمامًا، لكنَّ شيئًا ما في وجهها لم أستطع تحديده، نافذة الطائرة التركية وضعتني في عملية مونتاج حيَّة، حالة غير مألوفة مع أرض الشمس الغنّاء. لم أكن سعيدًا في بدء التحليق، باغتتني أشكالٌ ضبابيةٌ متوالية، صورٌ شوهاء ليست ماهرة بما يكفي، وغير مؤهلة للفراق، لم تكشف عن وقائع أخرى مُخْمَدَة، اكتفت بتابعيتها إلى سلطة النافذة، وظلت قابعة في تشوهاتها....، ثمَّ تلاشت.

"لا، ليس الأمر هكذا، لا بدَّ أنْ تمتلئ حواسيَّ بالبهجة"، همستُ بصوت خافت، ثمَّ زفرتُ بضجر وأردفت:" لا بدَّ من تطهير هذه النافذة من المغالطات، لا بدَّ أن تثار أوسلو بصورة مجدية، لتعيرني استدراكات وإضافات تبرِّر إعادة تكوينها بما يجعلها حيَّة، أو أدنى إلى سحر مدينة قلاع نرويجيِّة قديمة. هذه المروج مخصَّصة للعشق، تَرَعْرَعَ الحبُّ فيها، وغدت هي وتونيا وآيلا، موسيقى رقصة عذبة، يجب ألّا تتوقف.

هذه الإيماءة الباهتة لا تكفي.

***

 مَرَّتْ بجواري مضيِّفة أنيقة، تدفعُ عربةَ الضيافة، وتوزع المُقبّلات والمشويَّات على الراكبين، تبعتها مضيِّفة أخرى، تجرُّ عربةً مليئةً بالمشروبات الروحية. طلبتُ كأس ويسكي وشربته دفعةً واحدة، ثمَّ لِذْتُ بالخيال.

داهمتني رهبةُ الفراق فجأة، لكنَّني شعرتُ بنوع من التصالح مع ما تمخض عنه لقاء يوم أمس الأول. ما حدث في تلك الليلة هو أمرٌ مرهق، بالرغم من أنَّه كشف عن حِكَم وأقوال رجل ستينيّ، ظلَّ يعامل صهره كشخص ثمل، يُزبدُ ويُرعدُ ويتوعد، وسرعان ما يَعْدل عن كل هذا بُعَيد صَحْوِه. ربما أراد أنْ يراوغ ابنته بهذا الإحساس، زوجتي الغاضبة المحتجة على قرار الرحيل، وقد تكون وراء ذلك مرامي أخرى، لكنَّ إحسان الظنِّ مطلوب، بالذات مع كَياسة عجوز مثله، ظلَّ يداور ويناور ببراعة، وغدا أشبه بقرص صغير في لعبة "مكعب روبيك"، يعيد ترتيب الألوان على وجهات المكعب، من دون أن يتخلى عن سطوته!

داهية هذا الـ "تور ستِين"، عجوز عجيب يستكشف الأمور بغريزة طفل ما قبل البلوغ، يندس بين سطورها بخفة، وتتنامى قوَّته الناعمة بإيقاع احتفاليٍّ، وحالما يقترب من مراده، يكتفي بذلك القدر من العرض، ثمَّ يتوارى خلف أبعاد متحركة لمراميه، يظل يقودها بتفكير "نيوتروسوفي"، يسعى إلى قياس استقرار الآراء غير المتفقة، ومدى عدم استقرار الآراء المتفقة، وبمجرد أنْ يستحوذ على مَلَكات مُحاوِره، يعود ويرتدي جلباب الشيخوخة، ثمَّ يمضي بتبصِّرٍ في شعاب ووعورة مخيلته الواسعة. أظنَّه كان يسعى إلى فحص دوافع رحلتي "الخام" واستدراج معانيها، ربما نَجَحَ أو كاد ينجح في مسعاه، لولا نشوب بعض المناوشات الكلامية بيني وبين تونيا.

يا له من كائن عطوف، لَكَمْ أحببته! لا لأنه عجوزٌ مهووسٌ في الأساطير والملاحم والخرافات، بل لأنَّني شَمَمْتُ فيه عطرَ أبي، "بريخا" العجوز الذي تركته في بغداد، وغدت صلتي به "هاتفية، ومواقع تواصل"، طيلة خمس عشرة سنة.

أوه.... كم كنتُ رهين عجوزين ودودين،

نرويجيّ في أوسلو،

وآخر في بغداد.

***

 اتخذتْ عينا "تور" الزرقاوان أوضاعًا غريبة خلال محاولات اقترابه الحذرة، لكنَّه لم يجد أيَّ وسيلة للتفاهم في تلك الليلة العاصفة، لم يمنحه هيجان تونيا مجالًا للتوغل الحر، لم يتمكن من النظر في تخوم قرار الرحلة بطريقة أوضح. شيءٌ من الضيق والشدِّة، جعله يرسل إشارات إيحائية إلى هواجس ابنته، إلى مرامي إصراري على السفر، إلى ما يجرى في بغداد، لكنَّه، في كل تلك المحاور، لم يمسك نفسه عن التوغل في أساطير "الفايكنج".

يا لولع النرويجيِّين بالأساطير!

 لم يكن ذلك اللقاء حميميًا، على الرغم من مظهره الاحتفالي، لذلك حاولتُ إشغال نفسي بمشاهدة لوحتَي "عذراء الحسُّون" لـ "رفائيل"، و"العائلة المقدَّسة" لـ "فيديريكو باروتشي"، وهو طقس اعتدتُ عليه، كلما زرتُ ذلك البيت المجاور لبيتي، منذ أكثر من نصف عقد جميل مضى.

ظللتُ أقارن بين مهارة الفَنانَين وبراعة لوحتيهما، وأتنقل ببصري بين وجه الطفل "يُوحنَّا المعمدان"، وهو يُقدِّمُ حَسُّونًا إلى الطفل "يسوع"، مُحذرًا ايَّاه من أهوال مقبلة، وبين وجه القدِّيس "يوحنَّا المعمدان"، وهو يرفع حَسُّونًا، بعيدًا عن مُتناول قطَّة.

أوه.... هالة واسعة أحيطت بهذا الطائر الشغوف ببزور الأشواك البريَّة، جعلته رمزًا مسيحيًا في الصبر، وفي تحمّل قسوة الوقوف على الأشواك التي صُنع منها إكليل يسوع، في فترة أَسْرِهِ وتعذيبه.

اضطررتُ، كالعادة، إلى الخروج من الصالة لأدخن سيجارة. لا تونيا ولا أبوها يطيقان رائحة السجائر. وحين عدتُ بعد دقائق، وجدتُ المائدة عامرة بالأكلات النرويجيِّة الشهية، أطباق "سمك الرنجة المُمَلّح، والسلمون المدخِّن، والقريدس، وسرطان البحر، والبطاطا المسلوقة، والملفوف، وأقراص الخبز الأسمر، والزبدة، وصلصة الخردل".

فتحتْ تونيا زجاجة "الغلوغ" وملأت منها كأسا. هي لا تتعاطى المشروبات الكحولية إلّا في مناسبات معدودة، لكنَّ إصراري على السفر إلى بغداد ربما غدا مناسَبة!

والدها، هو الآخر خرج عن المألوف، احتسى كأسين من "الفودكا"، على غير العادة، ولاذ بالصمت. أما أنا، المحتفى بي قبل سفري إلى عالم المجهول، فودعتُ الفودكا النرويجيِّة المفضلة لي – ماركة " Vikingfjord Vodka" بخمس كؤوس.

***

 حتى الآن، لا أتذكر كل ما قاله العم تور، لكنَّني لم أنس كيف كان يأخذ رشفة صغيرة من كأس الفودكا، ويعقبها بقطعة صغيرة من سمك الرنجة، ثم يتوغل معي في الحديث تدريجيًا، عَتَبَة إثر عَتَبَة، إلى أنْ تغدو أفكاره الدقيقة عصيَّة على حصرها بين معقوفين.

قال لي بنبرة ودودة وهو يُعدِّل نظارته:" بما أنْ الأمر كذلك، أجد من الصعب حسمه الآن، ربما لن نخرج منه سالمين! آه... كلماتي الليلة يا بُنيَّ، ليس لها نفس المعنى "القديم"، كأنَّني أمام شيء لم أعهد رؤيته من قبل. حقيقة، هذا النوع من الخيار يصعب البحث فيه، لأنَّه اتخذ بكيفية مغايرة للمألوف، ليس له ومضات تفسيرية أعزوها له. أنت تبدو كمن يفكر خارج عَتَبَة المعنى، لكنَّ قرارك يبقى مرتبطًا بالشجاعة ارتباطًا لا مراء فيه. أهوال بلاد النهرين من الصعب تزييفها. لا أريد أنْ أكون مثل الذي يغلق أثر السن المقلوع بلسانه كلَّما ابتسم، ظنا منه أنه يستره. لكنْ لا تشعل نارا لا تستطيع إطفاءها. الموت والحياة في صراع محموم، من الصعب التكهن بما يمكن أن يحدث لك هناك. آه... ليس بوسعي الآن سوى أن أتساءل: كيف نُخفف من ثورة تونيا بخسائر أقل؟ كيف نجد وسيلة إرضاء بتكلفة زهيدة؟ ربما نحتاج إلى وصفة تكتيكية بالغة التعقيد. الأمر يحتاج إلى حكمة ".

 

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم