فصل من رواية "حكايتان من النهر"
"الحياة أحدوثة الخلق"
توقفت عندها كثيرًا، أعدت قراءتها أكثر من مرة، قبل أن أنطلق وأتوغل في عوالم روايتك، كنت ألتهم الصفحات التهامًا، مستمتعة بالسرد، وباحثة عني في آن واحد، لا بد بأنني سأشكل جزءًا من حكايتك، ولو جزءًا يسيرًا، قلت ذلك لنفسي، ومضيت في القراءة، ووجدتني فعلًا، ولكن لم أجدني كاملة في الحكاية، شعرت بشيء من الأسى، وطيف من الفرح، كان الفرح لأن أحدًا أوجدني في كتاب، وأنا أحب الكتب، فكيف إن كنت داخلها؟ وأما الأسى فلأن ذلك الوجود لم يكن كما أريد، كانت حياتي ناقصة في صفحاتك، أو سطحية، وأنا أردت حياة كاملة، على الأقل في كتاب، إن لم تكن في الواقع. أردت سيرة روائية تخصني، وتغوص في أدق تفاصيل حياتي، هواجسي.. خيباتي.. أحلامي.. هزائمي.. انتصاراتي، وخوفي، كنت أريدك أن تتحدث عن "الخوف"، إنه الأحداث والعقدة والشخوص في قصة حياتي، لكني لم أجد منه شيئًا في روايتك، التي أتممت قراءتها في جلستين، ثم رميت بها وبوجودي غير المكتمل جانبًا.
أطفأت الضوء الوحيد الذي كان ينير صفحات روايتك أثناء القراءة، وغرقت في ظلام غرفتي. بعد برهة انفتحت كوة ضوء في جدار الظلام، شاهدت منها أصابعك وهي تضع الكلمات الأخيرة من حكايتك، حكاية المنبوذ الذي أحب الكلمات حبه للجبل، ذلك الذي لم يعد له وجود إلا في تلك الرواية. تلاعب النوم بأجفاني واختفت الكوة، ثم حملني إلى بعد زمني آخر، كأنما عاد بي إلى فجر البشرية، ولا أدري! هل للبشرية فجر من الأساس؟ أم إن كل دهورها تعبر في ظلام دامس؟. رأيتني في ذلك البعد الزمني أقبع في كوخ قديم ومتهالك، كان ذلك الكوخ يسمى بكوخ الحيض المعزول، وليس به أي أثاث يصلح للنوم أو للجلوس، وإنما أرض متربة وجدران من أغصان الأشجار وأوراقها، ولا شيء آخر. وعندما نظرت بين قدمي وأنا جالسة بملابس مهترئة بالية، لا تتجاوز ركبتيِّ من نصفي الأسفل، ولا منتصف نهديَّ من الأعلى، رأيت دماء دورتي تسيل على الأرض، كان اللون الأحمر قانيا وكثيفا ومتدفقا وذا رائحة أنثوية قوية، حتى لقد امتلأ الكوخ بدمائي، وفاضت الرائحة في المكان. تحاملتُ على نفسي لأقف على قدميَّ وأقترب من باب الكوخ وأرى ماذا يفعل الناس في الخارج، وعندما كشفت الستر الذي بيني وبينهم رأيتهم يفعلون كل شيء، إلا النظر إليّ، بل إنني لم أكن موجودة في مجال نظرهم، لقد كنت في زمن أخفض من زمانهم الأعلى، وعرفت حينها بأنهم قاموا بنبذي داخل هذا الكوخ لأنني في فترة الطمث.
استيقظت من نومي، لأتحسس دما حارا وطازجا يسيل من بين فخذيّ ويصبغ فراشي بلونه الأحمر القاني. لم يكن موعد عادتي الشهرية! ويبدو بأن دمائي أعلنت ثورتها على وجودي الناقص، والمنتبذ والمحتجب... بعد شهرٍ ونصف من ذلك الإعلان الثائر أعدت قراءة روايتك مرة ثانية، وبركان من المشاعر المتناقضة يتفجر في باطني، كانت مشاعر مبهمة المعالم، خليط من الغضب والحب والألم والخوف والهروب من الصمت والرغبة في الكلام. وحالما انتهيت منها ارتسمت في ذهني هذه العبارة "لماذا لا أعيش داخل كتاب؟" ستكون حياتي مختلفة حينها، سأعيش حياة متواصلة، لا يقطعها خوف ولا موت. يجب أن تعرف بأنني كنت أتشافى وأطبب جروحي بالقراءة، بدأت رحلة التشافي بكتاب ألف ليلة وليلة، ولكن القراءة وحدها لم تكن كافية لشفائي التام، لا بد من الكتابة حتى يحصل لي التعافي الكامل، لا بد لي من جناحين لأعيش طيرًا، وأنت من سيُنبت لي الجناح الآخر. تذكرت الآن قصة عامل القهوة التي نسيت أن أكملها لك، لا أدري لم قفزت إلى سطح ذكرياتي الآن، بعد أن وصلت إلى هذا الزمن من حكايتي؟ لقد وُجد ميتًا في غرفته، محا الموت كل القصص والحكايات التي اتسعت لها مخيلتي عنه، أو التي عاشها بالفعل، ولم تسعه سوى غرفته الضيقة التي مات بها، لم يعلم أحد بموته إلا بعد مرور يوم كامل، في صبيحة اليوم التالي، بدل أن يطرق الباب طرقتين، ثم يفتحه بهدوئه المعتاد حاملا كوب القهوة، جاءت إحدى زميلاتي لتخبرني بموته، شفيق القهوجي مات، قالتها بعد أن دفعت الباب بما يسمح لرأسها أن يطل من فرجته، ولم تزد على ذلك شيئا، سوى أن ترحمت عليه، ثم أغلقت الباب مرة أخرى. هذا كل ما تبقى من حياة شفيق عامل القهوة، كل ما تبقى منه قيل في ومضة عابرة بين انفتاح باب وانغلاقه. عشرون سنة عاشها هنا بعيدا عن أهله، حُكيت جميعها في تلك الومضة!. حياة كاملة، لا بد أن بها الكثير من الأحداث والقصص والذكريات والأفراح والآلام، ولكن الموت لم يحفل بكل تلك الحياة. ومن يومها بت أخشى أن يمحو الموت قصتي، أن أندثر ويندثر معي إصراري على الحياة، وكفاحي للعيش، أن أتبعثر وتضيع كل تفاصيلي. وتحت ضغط الأحاسيس المتعاركة داخلي، والمتولدة من عبارتي الأولى "لماذا لا أعيش داخل كتاب؟"، قمت بإنشاء حساب في الفيس بوك باسم مستعار، اخترت أول اسم جال بخاطري لحظتها وكان "قصة مؤجلة"، ثم بدأت في البحث عنك مباشرة بعد أن أكملت عملية التسجيل، وبمجرد أن كتبت اسمك ظهر لي حسابك وصورتك، هذا هو أحمد الحداد، وهذه ملامحه السمراء الهادئة، العينان الحزينتان، والأنف المعقوف، والفم ذو الابتسامة الحائرة، وهذه كتاباته المليئة بالصمت والتأمل والشعر والنساء، ومن دون تردد ضغطت أيقونة طلب الصداقة.
0 تعليقات