كأنهُ أول الصباح، كأن الشمس اشرقت للتو، طقسٌ مُعتدل، جو صاف وشمس بأشعةٍ دافئة، سماءً تتخللها سُحب تسير ببطء امام عيني، أنظر إليها دون حِراك، الجو هادئ وجميل، ولكن هناك سكون رهيب على مسامعي، من حولي هدوء تام، هدوء يثير الشك ... لمَ هذا السكون؟ اين أنا؟
أجدُ نفسي مُستلقياً على ظهري، على ارضٍ رطبة بعض الشيء، ولكن لا شيء حولي؟ لمَ لا التفت؟ ما السبب؟ لا اعلم، كأنني سقطتُ من مكانٍ شاهق، يخفقُ قلبي مُسرعاً ولكنني لا اشعر بنبضاتهِ، اشعر بأن هناك رهبةً تمتلكني، اشعر بخوفٍ من أن اُحرك جسدي، اخاف لئلا أهوى مرة اخرى، لا اقدر على الحِراك من شدة الرهبة، لمَ لا اتنفس؟ ساكنٌ لدرجة انني لا اشعر بأنفاسي، مُستلقي على أرض غريبة، لا اعلم اين انا؟ لمَ انا هادئ؟ لمَ انا وحدي؟ لمَ لا اشعر بأنفاسي، لا ارى صدري يرتفع وينخفض، حركتُ رأسي الى الأسفل قليلاً ونظرتُ إليه فوجدتهُ ساكن، انا لا اتنفس!
بدأتُ أحرك عيني يميناً ويساراً، الى الاعلى والى الأسفل، أبحث عمن يجيبني، هل مر وقت كثير على بقائي هنا؟ لمَ انا هنا؟ تأملتُ النظر في السماء، تركتُ كل الظنون التي تساورني، سألتُ ذاكرتي عن ذكرياتي، هُنالك ثمة شيء يجعل الذكريات تتراكم أمام عيني، وكأنني اضغطُ بيدي على جانبيّ رأسي لأستجمعها، تراءت لي أهم الاحداث التي مرت في حياتي، أجمل اللحظات وأهمها، ساورتني تلك المخاوف التي كانت تلاحقني على الدوام، تذكرت كل شيء قضيت حياتي وأنا أجمع عنهُ الأدلة، انتابني ذات الشك الذي كنت أهرب منه، تذكرتُ مدرستي، امي وابي، اخوتي حين كُنا صغاراً، تذكرت كل شيء لا يقبلُ النسيان.
انا في فضاءٍ واسع، في مكانٍ لا يشبه الأرض، الوانهُ صافية، سماؤه ناصعة البياض، أنا خائف، خائف بذلك الخوف الذي رافقني طويلاً، خائف من ذلك الامتحان الذي خُلقِنا لأجله، لطالما كنتُ أؤمن بأن الرب خَلقَ عِباده ليمتحنهم كُلاً بحسب زمانهِ ومكانه، بحسب ما تحيطهُ من معطيات عاش بموجبها، هذه المعطيات ما هي إلا حلقات صغيرة تحيطها اخرى كبيرة ثم حلقات اكبرُ حجماً، حلقات تزداد اقطارُها اتساعاً كلما تركنا احداها واتجهنا الى الأخرى.
(الذات) هي الحلقة الأولى، بما تحملهُ من افكارٍ استلهَمَتَها من عقلنا الباطن، منذ ان بدأنا التساؤل عن اسم كل شيء من حولنا والى ان بلغنا الرُشد، الى أن اكتسبنا العقل الناضج الصالح للتفكير والتفكر، ثم الحلقة الاكبر منها وهي (الاسرة)، هي التي عشنا وسطها بما فيها من صالحين وغير صالحين، ثم الحلقة الاكبر وهي (البيئة) التي نشأنا فيها وكل ما اكتسبناه منها رغماً عن ارادتنا، ثم حلقة (المُجتمع) بكل عاداتهِ وتقاليدهِ وقيمهِ، ثم حلقة (الحياة) بكل شيءٍ احتوته، قَيماً كان ام غير قَيم، في كل الايام التي قضيناها فيها أما تلبيةً لشهوة أو طلباً لعِلم، للتمرس في الجهل أو للبحث عن الحقيقة، لبناء مستقبلٍ عظيم أو لاستخراج امثلةً من الماضي بُغية الاستدلال عن المستقبل.
خائفٌ من تلك الحياة التي مُنحت لنا لكي نكون، ونحن لا نعلم ماذا سنكون، نعمل ولا نعلم، جميعنُا لا يعلم حين يعمل بأن ما يسير عليه هل هو (الصراط المستقيم) ام (طريق السعير)، تؤجل معرفة الحقائق الى يوم الحساب، مهما كانت مساراتُنا في الحياة مُتقاطعةً لبعضها أو مُتوازية، {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ}  نحن لن نعلم ما عملنا إلا بعد أنتهاء مُدة الامتحان المُقرر لأن نعيشه.
اتأمل سماءً شكلها مُريب، حركة غيومها سريعة، وكأني أوقدتُ ناراً ثُم أحترق بها، حائرٌاً في إجابةٍ لسؤال ليس لهُ إجابة، من أين وكيف كانت البداية؟ كيف تكونت الارض؟ كيف جاء أول البشر؟ من هو أول الخلق؟ ما هي حقيقة الاديان؟ لمَ كل البشر ليسوا على دينٍ واحد؟ أليس الخالق واحد وغايته من الخلق واحدة؟ أليس ما يريدهُ من خلقهِ هو عبادتهِ، لمَ هنالك أكثر من طريقةٍ لعبادتهِ؟ لمَ هُناك أكثر من طريقةٍ لعبادتهِ في الدين الواحد؟ لمَ هناك أكثر من دين؟ لمَ هُناك اختلاف بين الأديان وتحريض على القتل بينهم؟ أليس مُرسل الأديان واحدا؟
يَعقدُ التاريخ لسانه لو سُئِل عن آلهة ما، كلما قرأته، يضعني تاريخ البشرية والأقوام القديمة في حيرة من أمري، لمَ الآلهة تتجدد؟ لمَ الانسان بطبعه الفطري يبحث عن إلهٍ يلتجئ إليه ليمنحهُ الأمان ولينتشل منهُ الخوف؟ لمَ طقوس دينه تكون في الغالب وفق الظروف التي يعيش فيها؟ وكأن الآلهة تكونت بحسب ما يُريد وما يشتهي، أليس من المفروض ان تكون الآلهة موجودة بذاتها؟ أليس من المفروض ان تكون الأديان وفيرة المُعجزات؟ أليس من المفروض ان يكون الإله واحدا؟
التاريخ خيرُ دليل يُزيد أسئلتي إبهاماً، وقتما كان من الاجدر بهِ أن يكون الفيصل، تاريخُنا كُلما بحثنا فيه غِصنا في عتمةِ بحر التساؤلات أكثر، لتزداد العتمة أكثر، ويتفاقم التساؤل، حتى نكاد نصل لأمورٍ تُزيد من غرابة اسئلتنا غرابة، لتكون في نهاية المطاف ليست أسئلة فحسب، تصبح مُعضلة، نتمنى حينها آسفين لأن نعود لنقطة البداية، لتلك الدقيقة التي مسكنا فيها أول كتاب يبحث ويُنقب في ماضينا، يبحثُ في أصل تكوين كُل شيء من حولنا، نتمنى لو اننا لم نقرأ، يا ليتنا بقينا على ما اكتسبناه من معلومات تضمُر الخرافات في جوفِها لتلك الإجابات التي سمِعناها من ابوينا أو من معلمينا في المدرسة أو من أسيادنا في الدين، نتحسر لأننا خرجنا من تحت سطوة عباءتهم في دور العبادة، ركضنا الى النور بعد أن سمعناهُم يقولوا بأن "العلم نور" خِيّل لنا بأن العلم نور فركضنا باتجاهه، وما أن وصلنا إليه أحرقنا بنارِ الخوف لما احتواه من حقائق، لظّى الإمساك بها أشدُ من الإمساك بالجمر، هو ذات الخوف الذي انا على قيدهِ الان، الخوف من ذلك الامتحان الذي خُلِقنا من اجله، كيف سنُجيب ونحن من كُثر ما بحثنا، لم نعُد نمتلك الإجابة.
رُغم الظلام الغادق من حولي ورغم رياح الجهل التي تزأر خارجاً، دعاني حُب البحث يوماً ما لفتح نوافذهِ، اقنعتُ نفسي بأني بحاجةٍ لبعض النور المُنعش لرئتيّ اسئلتي، قرأتُ تاريخ الحضارات القديمة، قرأتُ عن الإغريق والبابليين والحضارة الصينية القديمة والفراعنة وغيرهم، لاحظتُهم قد وجدوا عشرات أو مئات الآلهة لكي يعبدونها، وقتما شاءوا وكيفما شاءوا، لاحظتُ من خلال آثارهم بأن هُنالك آلهة للحب وآلهة للحرب وللزواج والسفر والصيد، لاحظتُ أن لكل آلهة قصتها واثرها التاريخي الذي تداولهُ الناس آنذاك، تكرر تداولها أجيالاً بعد أجيال حتى تم تصديقها والإيمان بها، حتى اننا حين نطلع على قصص هذه الآلهة ولِمَ كانت بهذه الصورة، نجد حِبكةً من الاحداث تصبُ في النهاية لحِكمةٍ تجعل العقل والقلب يؤمِن بها دون تردد، يخطر ببالِنا كيف كانوا يسردونها لصغارهم لكي يتربوا على قِيمِها، هذه القُصص لو انها وردت بكتبِ ادياننا اليوم لصدقناها ايضاً، فليسَ هنالك طريقة تجعل العقل يوقف الشك في أي قصة يسمعها سوى ربط مصدرها بكتبٍ يُدّعى بأنها سماوية.
بين لحظة ضعف ولحظة قوة، ألثغ بأحرفٍ ليست من لُغتي حين أفصح عن ديني الذي أؤمن به، فأغلب اقراني في الدين حين يطلّعون على تاريخ هذه الاقوام القديمة ويتعرفون على أنواع وأعداد الآلهة التي كانوا يعبدونها وكيف كانوا يعبدونها يرددون عبارة "الحمد لله على نعمة الإسلام" دون أن يتساءل أحدهم عن ماهية دينهِ أو مذهبهِ على أقل تقدير، لم يتساءل أحدهم كيف جاء الدين وكيف وصل إلينا؟ عن طريق مَن؟ في أي سنة؟ من القائل؟ هل هو محل ثقة؟ كيف نجعله محل ثقة بعد هذا الكم الهائل من السنين التي تفصل بيننا وبينه؟ الإيمان بالأديان مسألةٌ غيبية، لا مناص للحياد عن ذلك اطلاقاً، الدين الإسلامي تحديداً ومن دون الأديان الابراهيمية لم يأتِ بمعجزة مادية ملموسة، اتأمل الدين (اليهودي) و(المسيحي) وقصص الأنبياء (موسى) و(عيسى) فأجد الكثير من المعجزات التي قدمها كل نبي لقومهِ لكي يؤمنوا به، والقرآن قد ذكر ذلك في آياتهِ عبر قصص الاولين، لمَ الدين الإسلامي لم يأتِ بمعجزةٍ يشهدُ لها العيان؟ تساؤل من المُستحيل أن أجد لهُ إجابة فهو من مشيئة الرب، للرب تقدير ذلك، أقول ذلك لأني لا أتمكن من قول غير ذلك، ولكي أبرهن لنفسي بأن الإيمان بالأديان من الغيبيات، وأنا في هذا المكان الغريب الهادئ ارى بأن الدين الإسلامي هو الدين الوحيد الذي من الصعب جداً الإيمان به ومن السهل جداً نقض وجوده، وهذا التَوسّم لا يسري على من كسب الدين بالوراثة.
اتفكر وأنا مُلقى على ظهري تحت هذه السماء المُريبة في سرد مفردات الدين الإسلامي على شخص (لا ديني) بالغ عاقل، بلغ سن الرشد بعد أن نشأ في عائلة لا تعتنق أي ديانة، بماذا سأبُرهن وجود أو بَعثَ نبي ديني؟ كيف سأثبت لهُ بأنه دين سماوي دون أن اسرد لهُ مُعجزةً ماديةً مرئيةً جاء بها نبي ديني كي لا يُقارن بباقي البشر؟ لستُ من الديانة (اليهودية) التي يمتلك مُعتنقوها (9) بَراهين ومُعجزات أشار لها القُرآن  لوجود دينهم، فضلاً عن المُعجزات الواردة في (التوراة) بأسفار (العهد القديم) وتحديداً في (سفر الخروج)، كما أني لستُ من الديانة (المسيحية) ونبي ديني تكلم في المَهد ونفخ الروح في الطير ومسح الأكمه  فأعاد لهُ البصر ومسح على الأبرص وكَتب لهُ الشِفاء وكان قادراً على احياء الموتى، مُعجزات نص عليها القرآن  بالإضافة الى (37) مُعجزة أخرى نصت عليها الاناجيل الأربعة ، لنا نبيٌ لم يمتلك سوى آيات بينات حتى جاء (الفقه) و(علم الحَديث) فأذهب عنها بريقها، لنا دينٌ حائرون في نشأته، حائرون في أسباب نشأة طقوس عباداته، حائرون في وجه تشابه (17) موضع بين (سَفر الخروج) و(القرآن) ، دينُنا كما الأديان التي نُزلت من قبله، إلا أنهُ اعظمهم قسوة في بنود امتحانه، اشدهم غموضاً، أكثرهم وعيداً بالعذاب.
أزهرت آمال إيماني الغيبي فقطفتها ايادي الشك حين تساءلت لمَ هناك شبه بين قصة (الاسراء والمعراج) واسطورة (بيكاسوس Pegasus) الاغريقية، تساءلت عن عدد السنين التي سَبقَت ظهور هذه الأسطورة عن ظهور (المعراج) في الدين (الإسلام)، وأنا مُستلقٍ على هذه الارض الغريبة تُراودني فرحةٌ كتلك الفرحة التي راودتني من قبل وأنا ادخل القبو لأول مرة، كنتُ اشعر بأن هناك شيئاً ما سيحدث، شيئاً سيُغير مجرى حياتي، كنت اغوص نحو ضوء في أسفل قاع عَتمة شكي ويقيني.
قرأتُ ذات مرة وجه الشبه الذي يشوب تلك القصتين في مجموعة أوراق مُبعثرة في قبوٍ أسفل منزلنا الكبير، كنتُ ادخلهُ خِلسة دون علم ابي، منعنا من دخولهِ مراراً، تارةً يقول ان فيه افاعٍ كبيرة، وتارةً يقول بأنهُ لا يحتوي على شيءٍ يُثير الاهتمام سوى أثاثٍ قديم، كانت هذه الاوراق أول تجربة بحث لي، بدأتُ أبحث عن الحقيقة، هل قصة (المعراج) منسوخة من هذه الأسطورة؟ أم أن مَن رَفض اعتناق دين الإسلام وكَفرَ به ادعى وجودها ليقول عن القرآن بأنهُ من صنع البشر؟
بحثتُ في العديد من الكُتب في مكتبة أبي، وجدتُ في مُسند (احمد بن حنبل) تفصيلاً عّما حدث في ليلة (الاسراء والمعراج)، إلا أنني لم اعرهُ اهتماماً لما جاء في تلك الليلة عن (الاسراء)، بحثتُ عن (المعراج)، عن قدر تعلق الامر في اسطورة الحصان الابيض المُجنح، لمَ امتطى النبي حصاناً ليعرج الى السماء؟ ألمَ يُخلَق الحصان للجري! ما عِلاقة الحصان بالطيران؟ وقفتُ مُتكِئاً على نافذةٍ تطل على سماءٍ مُلبدةً بالغيوم، أمسكُ بيدي كتاباً لا ينفك أبي عن قراءته رفقة صحيح (مُسلم) ومُسند (احمد أبن حنبل)، بحثتُ في صحيح (بُخاري)، كان دائماً ما يقول لي بأن عليّ قراءة ما يتيسر لي منهم بعد قراءة القرآن، يقول لي دائماً بأنني سأجد فيهم كل الإجابات التي اريدها، ولكنني عجبتُ حين منعني عن السؤال في خارج ما تناولتهُ هذهِ الكُتب، لأنه من البُدع، وكل بدعة ضلالة، اوصاني بأن علينا الالتزام وفق ما ترويه فحسب، ان نعيش حياتنا وفق الاحداث التي ترويها، لأننا مُلتزمون بما جاء بهِ السلف الصالح ولا شيء غيره، وجدتُ وقتها وصفاً لحيوان (البُراق)، قيل عنه بأنهُ: "دابة دون البغل وفوق الحمار الابيض"  وجدتُ ايضاً في (مُسند احمد) ذات الكلام مع إضافة: "يضعُ حافرهُ عند منتهى طرفه"  ووجدتُ إجماع كل المؤرخين على قصة التقاء النبي بمن سبقه من الأنبياء في سبع سماوات تباعاً من السماء الأولى الى السماء السابعة، ليلتها جمعتُ الكتابين بالقرب مني وأنا اجلس القرفصاء مُنغمِساً بين كُتب القبو، شرعت لأن أبحث عن اسطورة (بيكاسوس) الاغريقية، وجدتُ مقالاً يسرد بالتفصيل كيف تكونت هذه الأسطورة، قرأتُها فأصبحتُ حائراً، أكرر ما قرأت في مخيلتي وانا أبحث عن المزيد من الأدلة لأنني لا أتمكن من دخول القبو في أي وقت اشاء، انتظر الليل لأدخل إليه خِلسةً بُغية البحث عن اجابة لما يدور في رأسي من الأسئلة في النهار، لاسيما وان أسئلتي البسيطة باتت تحتاج الى بحث وليس الى إجابة مُحددة، بتُ بحاجةٍ لأدلة وأسانيد توثق ما أريد ان أفقه، ولكنني في نهاية المطاف ايقنتُ بأن هناك العديد من الأسئلة المتعلقة بالدين لها أكثر من إجابة تحملُ الصحة.
كانت المرة الأولى التي أبحث فيها دون ان اجعل معتقداتي في دورق زجاجي مُحكم الاغلاق وأن ادفع بكل ما لقنني بهِ أبي بوجه كُل ما يخدش هذا الدورق، أضحيتُ اسمح لأن يمس النقد معتقداتي ومبادئ ديني، بعد أن وجدت الفارق بين ولادة أهم مؤرخٍ للحديث ووفاة النبي قد تجاوز المائة والثمانين عاما  وأن كُل ما ارخهُ كُتِبَ وتناقل بعد وفاتهِ بمائة وخمسة أعوام، وأن ليس هُناك أي كتاب أو مخطوطة بخط يده أو تعود لفترة حياته.
واصلت البحث لأصل الى إجابة لسؤالي، (ما هو البُراق)؟ ولمَ قصته تشبه قصة (بيكاسوس)؟ وقتها لم أتمكن من المكوث في القبو أكثر، كنتُ خائفاً لئلا يكتشف أبي امري، خرجتُ ضاحكاً وأنا احمل أسئلة أكثر، دخلت الى القبو لأجد إجابة لسؤال واحد فخرجت وأنا احمل بجعبة عقلي أسئلة أكثر، هذا هو الحال لكل من ظن انه يستطيع ان يجد إجابة محددة لأحداث أوردتها الأديان بكتبٍ لا تحملُ القَداسة، نحن من منح لها القداسة بعد أن لبَت لنا كل ما أردنا الحصول عليه.
بعدما كُنت أبحث عن ماهية (المِعراج) في الإسلام، خرجتُ مشدوهاً وأنا أتألم لتلك الرواية التي صورت لي بأن النبي كان يسرد أحاديثه المُكلف بنقلها الى المسلمين عن طريق الصدفة، وليس كما قال القرآن بأنهُ: {ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}  عجبتُ كثيراً حين قرأت ما روي عن (عائشة) بأن النبي لمح بحوزتها دُمية على شكل فرس بجناحين، فسألها: ما هذا؟ فأجابت: فرس، فقال: فرس له جناحان؟ فأجابت: ألم تسمع أنه كان لسليمان خيل لها أجنحة؟ فضحك  لأول مرة في حياتي اتخذ قراراً أخاف منه، ولكنني تحليتُ بالشجاعة، قررت وقتها وللمرة الأولى ان أضع الشك في كل كتاب يحوم حول القرآن ويسرد أحداثاً من وحي خياله مُحاولاً فهم آياته، قررتُ ان أضع القرآن سراجاً احملهُ بيدي بوجه كل من كَتب في الفقه تفاسيراً للقرآن يروم من خلالها لأن ينال رضا الحاكم أو لأن يُلبي نزواته وشهواته وان يطفئ جينات الجشع التي أورثها من اصلهُ القُرَشي، لاسيما وأنني ايقنت وتأكدت بأن تأريخنا الإسلامي أُرِخَ وكُتِبَ بأكملهِ في العهد الاموي، في ذلك العهد الذي كان فيه الحاكم هو ظل الله على الأرض، حين كان يعتبر تثاؤب الحاكم حديثاً نبوياً وسُعاله تفسيراً لآيات القران، حين أضحت أسماؤهم (المُعتصم بالله) و(المُستنصر بالله) و(المؤيد بالله) و (القائم بأمر الله) بعدما صّدقوا ما كانوا يؤولونه وكأنهم وكلاء الله على الأرض.
دخلتُ للقبو مرةً ثانية، قررتُ البحث والاستدلال بما يقوله القرآن عن (المعراج) وان أضع جانباً كل ما قرأتهُ من خُرافات، وجدتُ آية واحدة تخبرنا عن (المعراج) وهي الآية الأولى من سورة (الاسراء)، وجدت ان الرب يخبرنا عن مسيرة نبينا من (المسجد الحرام) الى (المسجد الاقصى) فتوقفت هنا لأستدل، ما هو (المسجد الحرام)؟ وما هو (المسجد الأقصى)؟ وجدتُ ان الله قد ذكر (المسجد الحرام) في القرآن (14) مرة بدلالةٍ واضحة لا تقبل الشك، وهنا ايقنت بأن النبي سار من هذا المسجد الى المسجد الأقصى، ولكن، الى أي (مسجد اقصى) يشير والمسجد الأقصى لم يكن موجوداً في زمن النبي! 
بعد كُل شموع البحث التي أوقدتُها في طريقي الى الحقيقة اكتشفتُ بأن (المسجد الأقصى) لم يكن موجوداً في زمن النبي وأن المسجد الاقصى الموجود حالياً في (فلسطين) قد بُني في زمن الخليفة الاموي (عبد الملك بن مروان 685م)، واستمر اعماره الى زمن ابنه (الوليد بن عبد الملك 715م) بالإضافة الى بنائه لـ(قبة الصخرة) وصَرفه للناس الحج إليها بدلاً من الكعبة الى أن تم قتل (عبد الله ابن الزُبير) وان جميع سكان (القُدس) كانوا يعتنقون الديانة المسيحية الى أن غزتهم جيوش الفتوحات الإسلامية المأسوف عليها في زمن الخليفة الراشدي (عمر بن الخطاب) بعد أن استعصى على جيش (أبو عبيدة بن الجراح) فتحها بسبب قوة قلاعها وسورها، ظلت (القُدس) صامدةً الى أن جاءت جيوش (عمر بن الخطاب) وأرادت فتحها فطلب أهلها بأن يأتي الخليفة بنفسه ليستلم مفاتيحها عام (636م) فخرج (عمر) من (المدينة المنورة) الى (القدس) تلبيةً لهذا الطلب ودرءاً للاقتتال، ولعلهم أدرى (بـعمر) من جيوش المسلمين.
تساءلت، الى أي (مسجد اقصى) يشير القرآن؟ سؤال يطرح معهُ أسئلة أكثر، هل كلمة (الأقصى) جاءت للإشارة لمكانٍ اقصى بمعنى (بعيد) عن المسجد الحرام؟ ام ان ورود كلمة (عبده) في الآية لا يشير الى النبي (محمد) بل الى أحد الأنبياء السابقين له؟ ام ان عليّ خلق الاعذار لأنصر الدين كما فعل (ابن هشام) حين أورد حديثا (لعائشة) تصف فيه النبي ليلة (الاسراء والمعراج) قائلةً: "مَا فُقِدَ جَسَد رَسُول اللَّه وَلَكِنْ أُسْرِيَ بِرُوحِه"  ليس بالشيء هين، حين تكتشف بأنك مخدوع بشيءٍ ذا قداسة، وقتما تكتشف الخِداع والزيف في شيءٍ لم تكُن تصدقهُ فحسب بل كُنت مؤمناً به، ليس هينا، ولكنني بعد ذلك الموقف قررتُ الوقوف على بُعد خطوةٍ واحدةٍ من كل شيء، لم اجعل ما اكتشفتهُ أن يهز اركان ايماني بوجود الله، لم اجعل القداسة المزيفة التي كشفتُ حقيقتها أن تلغي عقلي وأن تمنعني من البحث والشك فيما اسمع، قررت أن أكون محايداً، قررتُ فصل الدين عن الفقه، قررتُ ان اقرأ القرآن وأتمعن آياته دون الرجوع الى تفاسيرٍ تَنطقُ عن الهوى، ولكنني بتُ خائفا وتائها، حطمت ما كنتُ استند إليه، بتُ مُعلقاً في الهواء، بتُ آيلاً للسقوط من شُرفة ما أعتقد وما أؤمن، كسرتُ حاجز خوفي الدائب وحركتُ اصابع كف يدي، بدأتُ استشعر وأتلمس الارض المُلقى عليها، ارضاً شِبه ملساء، لا تحتوي على العشب، لا اشعر بأي شيء وأنا أحرك اصابعي، لا تحتوي على التراب ايضاً، حركت اصابعي أكثر، تَحركت بعدها اصابع كلتا يديّ مُحاولاً رفع يدي الى الاعلى لكي انهض، وجدتُ على معصمي اصفاداً حديدية، التفتُ يميناً ويساراً لأرى ماذا يوجد حولي، وجدت سهلاً اخضر ساكنا، هممتُ بالنهوض ولكنني لم أتمكن، بقيتُ جالساً، لا زالت تلك الرهبة تمتلك جسدي، اشعر وكأنني سقطتُ من مكانٍ عال، وكأنني كنت أهرب من حيوان مُفترس.
انظرُ الى الاصفاد التي على معصمي، كانت كتلك التي يضعها الاسياد بين ايدي عبيدهم في العصور الجاهلية، أنظر لها وهي تنحدر الى الأمام، واصلت تتبعُها حتى رأيتها تنتهي لشخصٍ يجلس امامي على بُعد مسافة ليست بالبعيدة، هممتُ بالوقوف لأعرف ماذا حل بي، لمَ انا هنا؟ ولمَ هذه الاصفاد تحتجزني؟ وقفتُ فذُعرِتُ من خِفة وزني، وكأنني لم ابذل أي جهد وأنا أقف، أنظر لجسدي بتعجُب، اين ذهب وزني؟ وكأنني ازن بضع غرامات، وكأنني ريشة سقطت من جنح طائر صغير الحجم.
سرتُ بخطواتٍ ثم وقفت، نظرت في كُل الاتجاهات من حولي، المكان هادئ، سهلٌ اخضر ذو ارض مُموجة بعض الشيء، تتصل الأغلال حديدية خاصتي بشخصٍ يجلس على بُعد بضعة أمتار عني، يجلسُ على سفح تل صغير، وكأن من بعد موضعهِ مُنخفض، مشيت بخطواتٍ لأصل إليه، لكنني توقفت، لم أتمكن من السير أكثر، لا أستطيع الاتجاه نحوه. كان شخصاً يرتدي رداءً ابيض، لا أتمكن من تحديد هيئته، هل هو رجل ام امرأة؟ لمَ يحتجزُني؟ من هو؟ ولمَ انا هنا؟ أريد الاقتراب منه لأسأله، من أنت؟
ناديته: من أنت؟
لم يُجبني ...
صرختُ بصوتٍ عال: من أنت؟ ولمَ تحتجزُني بهذه السلاسل؟
التَفتَ وجههُ نصف اِلتفاتة، يضع وشاحاً على رأسه يُغطي مُعظم وجهه ...
قال: ابق هادئاً وستعرف.
سألتهُ: لمَ انا هنا؟
اجابني: لتتذكر.
قلت: لأتذكر ماذا؟
قال: لتتذكر حياتك، وما فعلتهُ بها، انت هنا لتتذكر فقط.
قلت: من أنت؟ انت رجل ام امرأة؟
قال: ستعرف فيما بعد.
قلت: لمَ هذهِ الاغلال على يدي؟
قال: انت من وضعتها.
قلت: أنا!! كيف ومتى؟ أنا لا أتذكر شيئاً، ما الذي حصل؟
قال: انت هنا لتتذكر، لتراجع نفسك وتنظر بعينِ ذاتك ملياً، لا تخف، لن اتركك.
قلت: اتركني لأعود الى منزلي واسرتي، لمَ تحتجزني هُنا؟
سألني: وهل تعلم اين منزلك؟ ومن هي اسرتك؟
انتابني الخوف الشديد، أنا لا أتذكر شيئا، لا أتذكر سوى القبو، سوى تلك اللحظات التي كُنتُ ادخل إليه فيها، حين كنت أبحث عن إجاباتٍ لتساؤلاتي بين طيات الكُتب القديمة والأوراق العتيقة في ذلك المكان شبه المُظلم، وقتما دخلتُ خِلسةً ووجدت في احدى زواياه بالصدفة ورقةً تتحدث عن (الاسراء والمعراج) فقررت العودة للبحث من أي الصناديق والأشياء المُبعثرة سقطت، وما هي التتمة.
والخوف يمتلكني كلياً، قلت له: لن اسألك من أنت، سأسألك من أنا؟ لمَ انا هنا؟
قال: لا تخف، اخبرتُكَ بأنني لن اتركك، اطمئن، انت هنا لتتذكر فحسب، ارجع خطوتين الى الوراء، اجلس مُتكئاً على هذه الشجرة وستتذكر كل شيء، ستعرف من أنت، ثم ستعرف لمَ انت هنا.
رجعت الى الوراء وأنا على يقينٍ بأنني لم أر أي شجرة حين نهضت منذُ بُرهة، التفت فرأيتهُا تنبثق من الأرض وتعلو الى السماء وتنضج أوراقها وتثمر بثمارٍ خضراء تشبه فاكهة التُفاح في آن واحد، جلست بقربها والغرابة تمتلكُني، بين ما رأيتهُ من مُعجزة وبين صوته الذي لم أتمكن من تمييزه، هل كان ذكراً ام انثى؟ تمتلكني الرهبة وجسدي يرتعش، لمَ لم أتمكن من التقرب منه!
جلستُ القُرفصاء تحت ظِلال الشجرة الناضجة، اتكأتُ بظهري على جذعها، أجلسُ وأنا ارتعد خوفاً، أرى نفسي في غُرفة بيضاء بأغطيةٍ بيضاء، كلما ارتعدت خوفاً أرى نفسي حبيس غُرفةٍ بيضاء ساكنة، تحتوي على سريرٍ واحد وأربعة جُدران، وما ان تهدأ رعشة جسدي أرى هذا المكان الجميل الهادئ، عاد ذو الرداء الأبيض لينظر امامه، لم يعد يلتفت إلي، ظل يُردد "اهدأ وستتذكر"
انظرُ الى الأعلى، شجرةً كثيفة الاغصان، يتخللها ضوء الشمس، وددتُ ان اسأله لمَ انا لا اتنفس ولكنني لم اسأله، فكرت في الصمت لدقائق كي تهدأ رعشتي، بقيت أنظر الى الأعلى، أنظر الى اغصان الشجرة وأوراقها الخضراء، تذكرتي طفولتي ...
كنتُ استيقظ على خطوات أبي وهو يدخل غرفتي، اترقب خطواته عند كُل فجر وهو يدخل، اترقب ظله من أسفل الباب وهو قادم، صوت الباب وهو يفتحه، أهم بالوقوف فوراً لأقول له قبل ان يوقظني: "أبي، أنا مُستيقظ".
منذُ اخر مرة صفع فيها وجهي وأنا انام خائفاً، ارتعد خوفاً من أن تفوتني صلاة الفجر فينهال عليّ بالضرب، أستيقظُ خائفاً، لأُصلي خائفاً، لأبقى خائفاً ومُستيقظاً لما بعد وقت الصلاة، أبقى مُستيقظاً الى أن تشرق الشمس، أنزل من سريري مسرعاً باتجاه أسِرة اخوتي لأوقظهم، اخاف من أن يوقظهم أبي فينتابهم الفزع، كانوا صغاراً على ان يوقظهم صوت يُهددهم بنارٍ ستكوي وجوههُم لو لم يستيقظوا لأداء الصلاة، كنت اخاف عليهم من بكائهم، اذهب مُسرعاً لأوقظهم بصوتٍ خافت.
بعد وضوءٍ شاق، نقف صفاً خلف أبي لنؤدي الصلاة، أقف وسط اخوتي الصغار لأضربهم بمرفق يدي لو غلب أحدهم نومه على صلاته، كنُا ننصت كذباً للآيات القرآنية التي يتلوها أبي لأن النُعاس لا يزال غالبا على أعيُننا، كنت اتوسط اخوتي كي لا يميل أحدهم في وقوفه، كان أبي يريدنا ان نقف بخشوع، في الوقت الذي كانت أعمارنا لا تمتلك عقولا تفقه معنى (الخشوع).
قطع أبي صلاته ذات يوم والتفت وشاهد اجفانُ اخي الاصغر مُغلقة، صفعهُ على وجهه وصرخ قائلاً: "ألم أقل لك بأن تقف خاشعاً في الصلاة؟" وددتُ وقتها بأن اقول لهُ بأنهُ ما زالَ في السادسة من عمره، لا يعلم معنى (الخشوع)، لكنني لم أقل شيئاً، كنت خائفاً من أن يضربني مثله.
تنتهي الصلاة بعد أن يلتفت أبي يميناً ويساراً، يركض اخوتي بعدها الى اسرتهم ليستغلوا كل دقيقة تمر في النوم، لم يتبق لديهم الوقت الكثير قبل النهوض والذهاب الى المدرسة، أبقى بجوار أبي من اجل التسبيح، أنظر في عينيهِ فأرى الغضب الصامت، يغضب من اخوتي لتركهم مكان الصلاة مُسرعين الى النوم، كنت أبقى لدقائق بقربه لكيلا يلومهم، لينظر لي وينسى امرهم، يهزُ رأسهُ ثُم يقول "لو كان التسبيح واجباً لضربتهم عليه".
اقضي الوقت المتبقي للصباح في التفكر بكل شيء منعني أبي من التفكير به، أفكر في اجوبة كل الاسئلة التي تطرح موروثاتنا ارضاً، موروثاتنا التي يَحقنّا أبي بمصلها في كل وقتٍ دون السؤال عن ماهيتها؟ أو عن أسباب تكوينها؟ منذُ الصغر وأنا أفكر في خالق الكون، أفكر في وجودهِ من عدمه، أفكر فيه مؤمناً بوجوده، مؤمناً بكتبهِ السماوية، مؤمناً بالقرآن الذي نُزُل على نبيه، مؤمناً بنبيهِ ورسالتهِ، ولكن هناك ثمة تناقض يفتك بأيماني السادي، سادي لأنني تلقيت ضربات على وجهي لكي أؤمن به.
صفعني أبي ذات مرة لأنني سألته عن أسباب حَج المسلمين الى مكة في كل عام؟ لمَ يطوفون حول الكعبة كما كانوا يطوفون حولها قبل الإسلام؟ لمَ الكلمات التي كانوا يشدونها في الجاهلية تشبه ما يشدونهُ عند الحَج بعد ظهور الإسلام؟ الكعبة بكلا الحالتين ذات الحجر والطواف ذات الطواف؟ سألتهُ لمَ القرآن يقول بأن: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} وهم يحجون لأيامٍ قلائل في شهر (ذي الحجة)؟ ما كان عليه سوى ان يجيبني، ان يناقشني، ان يلبي حاجة تساؤلاتي، عمري يزداد وعقلي بدأ يتفكر، كنت لا أريد اتباع ما يقوله إتباع الاعمى، إلا أن قسوته جعلتني كذلك، جعلتني اعمى وأبكم وأصم.
انا من بلاد القهر، من بلاد الكَبت من اجل العيش، أنا من (أفغانستان)، ولدتُ من أب غنيٍ جداً، مُترفٍ وذي جاه ومال، زعيم احدى أكبر قرى (قندهار)، نشأتُ في بيت مُتدين، كان أبي شديد التعصب لمذهبه، تعلمت منه تعاليم الدين واسسهُ، نشأت كما أراد لي ان أكون، نشأتُ فقط، قضيتُ فترة الصِبا في (كابل)، مدينتي الحبيبة، اعشقها بنهرها وبجبال (الهندكوش) التي تحيطها، قضيتُ أجمل أيام حياتي برفقة تلك البنت التي عَشِقتُها قدر تعلق الامر بالعشق، كان أسمُها (مريم).
لم يدرك الجمال مَن لم ير عينيها مع انعكاس ضوء اشعة الشمس، جميلتان كنوايا عاشق وهو يلتقي بمن يعشقُ سِراً، رؤية عينيها عند الصباح كانت بمثابة ولادة ابن لرجلٍ ريفي شَغلَ العُقر سنين شبابه، كانت تلد الامل مع كُل حركة لأجفانها، تنبثق من عينيها ألف كلمة حُب تُشير لي بأنها مُعجبة بي، كانت نظراتها تراودني عن قلقي وعن تلعثم مشاعري حين مكثتُ مُرتاباً من التقرب منها لفترة طويلة، وأنا اسير وسط أوراق الشجر المُتساقطة على الأرض ابان مجيء فصل الخريف، رأيتُها أول مرة، تساقطت أوراق الشجر وكست الأرصفة، اعلنت قدوم الخريف وولادة الحُب في حياتي، لم اعرف الحُب من قبلها، لم أعرف ايضاً بأن الحُب الذي يولد في الخريف لا يدوم طويلاً.
جاءت على غفلةٍ من إرادة الأقدار، كما تجيء الزلازل للجزر الاسيوية، رأيتُها فخرق جمالها اجفان عيني كما يخرقُ الرعد غيوم الليل، رأيتُها وهي تعلن ثورةً في مُدن المشاعر التي اكنُها لمجيئها، رأيتهُا لأول مرة وهي تبتسم فرأيتُ الحياة بأيامٍ ليست كأيامي، في أول مرة تشد فيه انتباهي، رأيتُها جالسةً لوحدها تتأمل بين يديها كتاباً صغيراً، كانت الفيصل بين الليل والنهار، بين الصحو وتلبُد الغيوم، تجلس والرقة تتناثر من خُصلات شعرها المُتدلي بالقُرب من صفحات الكتاب، لها أنوثة ما على الارض من أنوثة، جميلة لدرجة الابهار، تُحركُ رأسها فتُهدم خُصلاتها اسوار جنةً موعودةً لمن اتقى، رأيتُها وأنا غافل عمّا تُنص عليه أساطير الحسن عند النساء، رأيتُها فتذكرت ما قالهُ الفرنسي (Dom Pérignon) حين اخترع شراب (الشامبانيا) عام (1921)، حين نادى على اصدقائِه قائلاً: "تعالوا بسرعة، أني اتذوق النجوم"
جالساً في الهباء، مُتكئاً على السُدى، أبحث عن ذاتي فأجدُها ممزقة، أجمع عمّا يلزمُني من رُقع تكفي لحجب خيبتي، حكايات قديمة حملتها صهوة الريح، يضمرهُا الوهن، أهرب منها داخل خيمة الاسف، اوقدُ نار الندم، أصنع ذاكرةً تُعيدُني لعام 1976، كنتُ مُرغماً على أن أكون طالباً في كلية الشريعة الإسلامية، كنتُ أهرب من دراستي لألتقي بها، لأجلس معها خفية عمّا يُحيطني من آسى، أخاف لئلا يراني أحد ويخبر ابي، كانت ملاذي الآمن من حياةٍ لا أطيق ايامها، ومن دراسةٍ بتُ أكرهها لكِذبها وخِداعها، كانت حياةً على معزلٍ من الحياة، لبرهةٍ من زمنٍ لا يُحتسب من عمُري، كنت أهرب برفقتها من كل ما كان يحيط بي، أخبرها حين تكون جليستي عن كل ألم بداخلي فاق حدود الصُراخ، أخبرها لتهون عليّ جَور ابي، أهرب معها الى دُنيا غير الدُنيا التي كنتُ أعيش فيها، كانت الامل الذي يحتويني، كانت الامل الذي يبقيني على قيد الحياة، بعدما فكرتُ كثيراً بالانتحار، فكرتُ بالانتحار تارةً وفي الهروب تارةً أخرى، رأيتهُا عدة مرات، تبتسم وهي تُحدثُ رُفقائها، آسرتني وسرقت النظر من عيني، كانت جميلةً للغاية، لها عيونٌ أفغانية الخَلق، لون بشرةً يضاهي لون السماء، شَعر يُسابق مجرى نهر (كابل)، كان جَمالُها مُجمل جمال اللوحات التي رسمها فنانو القرن الثامن عشر في اوربا.
أسابيع عديدة وأنا اراقِبها بصمت، خفت محادثتها فترفض الحديث معي بسبب ذقني، كان أبي يمنعني من حِلاقته، كان لي ذقنٌ أكرهه، بسببه لا أرى انعكاس وجهي في المرآة كل صباح، اظهر من خلالهِ بهيئة التلميذ المُتدين والمُلتزم بما يقوله فقه دينه، يقول (أطلقوا اللحى) في الوقت الذي كان من الاجدر بهِ ان يقول (أطلقوا العنان لتفكير والشك)، قررتُ ذات ظهيرة ان أفصح لها عن حبي، تتبعت خطواتها وهي خارجة، استمتعت بعزف اقدامها وهي تسير، حتى انني تراجعتُ عن قراري بالتحدث معها لئلا يتوقف عزفها، سرتُ خلفها فأزداد حبي لها، أحببتها أكثر، احببتُ انعكاس ظِلها على الأرض، تتبعتها حتى ...
ناديتهُا: هل سمحتِ لي؟
توقفَت ثم التفَتت لي، حملقت بي ثم قالت: ماذا تُريد؟
اعتدتُ قراءة نظرات أعين أي انسان احادثهُ وسط خليط طلبة الجامعة، كنت اعرفهُ إن كان (شيوعي) الانتماء ام (إسلامي)، فليس هنالك مُعتقد يشغل الطلبة غيرهمُا آنذاك، كان (الشيوعي) ينظر لوجوهنا بنظرةٍ شاردة، هذا ان كان مُحترماً وذا فِكر نَير، أو أن تعتلي وجهه إيماءات الضجر اما بحركة من شِفاهه أو بحركة لأجفان عينه إن كان مُتطرفاً و ذو عقل لا يقبل فِكراً مُغايراً لفِكره، والأمر سيّان للمُتشددين الإسلاميين.
اجبتُها: اردتُ التحدُث معكِ، هل سمحتِ لي؟
ابتَسمت وأنا مُتعجبٌ منها، لم أر غريباً يبتسمُ بوجهي منذُ فترة طويلة ...
اجابتني: بكل سرور، ولكن ليس الان، انا على عجلة، اراكَ وقتاً اخر.
اجبتها: سأنتظرُكِ غداً، في هذا المكان (اشرتُ بيدي الى احدى زوايا الحرم الجامعي).
وأنا اُشير بيدي، نظرتُ الى المكان الذي اقصده بصورةٍ لا ارادية وأنا اشير له، وحين كررتُ النظر لها وجدتُها تنظُر لي بابتسامةٍ لطيفة دون أن تنظر الى ما كُنت اشير، ظننتُ الكثير وخمنتُ الكثير وكل ما ظننتهُ وخمنتهُ أسعدني.
قالت وهي تَقدم على مواصلة السير: اعدُكَ، الى اللقاء.
تابعت سيرها وأنا لا زلتُ ارفع يدي وأشير الى مكان لقائنا غداً، سارت بخطواتٍ لها ذات الموسيقى التي كنتُ انصتُ لها وأنا اتتبعُها ....
قُلت لها بصوتٍ غير مسموع وهي تبتعد: الى اللقاء.
امتلكت الوفير من الفرح، لأول مرة يُعاملُني شخص في الجامعة من غير الذين على شاكلتي بهذه المودة، لأول مرة اعود الى البيت وأنا اُقايض مشاعر البغضاء بالسُؤدد. 
كانت الحياة الجامعية في مُجتمعنا تنقسمُ لنصفين صريحين، (الشيوعيون) و(الإسلاميون)، كانت بذرة هذا الانقسام هي إقرار دستور الدولة عام (1931) والذي نص على أن الدين الرسمي للدولة هو (الإسلام)، كانت هذه هي النواة، وفي عام (1964) لم يكتفِ الشعب بإقرار دين (الإسلام) بكونه الدين الرسمي للدولة، بل الزمَ الحكومة بتغيير الدستور لأن يكون المذهب (الحنفي) هو المذهب المعمول بهِ تحديداً وعدم الاكتفاء بذكر (الإسلام)، وهذا ان دل على شيءٍ فإنما يدل على ان (الإسلام) آنذاك بات غير واضح المعالم ومُنقسم الى أجزاء لا تتقارب مع بعضِها البعض، أراد الشعب الافغاني بأن تكون (الحنفية) هي أساس دين الدولة بعد أن اصبح لدين (الإسلام) دلالاتٍ ومفاهيم عدة، في كل دولة. وكما في كل زمانٍ ومكان، يكون الحرم الجامعي هو الانعكاس الأشد وضوحاً لأفكار المجتمع، يكون وليد كل نقطة خلاف فكري يختلف بشأنها المجتمع، لا شك في ان الكثير من الدول شهدت تغييراتٍ سياسية كانت نواتها تظاهرةً جامعية.
اعمار الطلبة في هذه المرحلة تدفعهم لأن يقوموا بالتغيير، خاصةً بعد أن يشعروا بأن لهم أفكارهم الخاصة وأن بإمكانهم طرحها خلال المحاضرات الجامعية وإمكانية استعمالهم للغة الحوار بعد أن منعوا منها من قبل، لطالما رأينا الأحزاب وهي تنشر افكارها في الجامعات بالدرجة الأولى، الحرم الجامعي هو الأرض الخصبة لأفكار التحزب والانتماء أو لتبني الأفكار الكفيلة لأن تطرأ التغييرات المُباشرة على المجتمع، فضلاً عن ان عقول الطلبة في هذه الفئة العمُرية تكون صالحةً لتلقي أي افكارٍ تؤثر التأثير المُباشر على فهم الطالب الجامعي وتعطيه القوة التي تدفعهُ الى البحث عن تكتلات وتجمعات تكون فيها الأفكار التي يدعون إليها واحدة لتمتاز بالقوة لكثرة مؤيديها.
المُجتمع في (أفغانستان) كان عِرضةً لتيارين فكريين متوازيين بالقوة، (الشيوعية) و(التشدد لفقه الإسلام)، أو كما يُشار لهم (بالأسلمة)، إلا أن هذه الدلالة لم تكن واضحة، لأن مفهوم (الأسلمة) يحدد الانتماء الى (الإسلام) فحسب، ولكن الى أي (إسلام) نشير؟ لم يعد هناك (إسلامٌ موحد)، التياران كان لهما تأثيرهُما الخاص بالفطرة، (الشيوعية) جاءت بأفكارٍ اشتراكية ومبادئ ماركسية تريد من المجتمع ان يكون بلا طبقات وذا مُلكيةً مُشتركةً تؤدي لانتفاء الحاجة من استخدام المال وتداوله، و(التشدد للإسلام) جاء بضرورة الالتزام بما شرعهُ السلف الصالح مع ضرورة تحديد (ولي أمر) لكل فترةً زمنيةً يتولى خلالها قيادة المُسلمين بحسب التراث الديني المُتواتر والذي ظل خاضعاً لإضافات (أولياء الامر) على مر الزمان كُلاً بحسب ما اقتضت مصلحته ومصلحة زمانهِ ومكانه.
تلقى التياران قسماً من المؤيدين من خارج الحرم الجامعي، كان المُتلقي متفقه بعض الشيء لمبادئ كل تيار، كانت نسبة الجهل قليلةً نوعاً ما، وكان من الممكن ان نرى أحد المُتلقين لهذين التيارين يسأل عن مفاهيم التيار وفحواه والى أي هدفٍ يصبو، أو أن يُقارن أفكار التيار مع الأفكار التي امتلكها بحكم المجتمع أو بحكم عقليتهِ وتوجههِ العقائدي، لأن المجتمع الذي تربينا عليه، شِئنا ام ابينا، يفرض علينا عدةَ مفاهيم نتبناها دون نقاش لأنها كانت بحكم النشأة، في الحرم الجامعي الامر مختلف بعض الشيء، فقد لا نجد هؤلاء المُتسائلين، لأن فترة نشوء العقل في هذه المرحلة قد تكون خاضعة للغرائز. في مجتمعنا عموماً وفي الحرم الجامعي خصوصاً، كان الطلبة فئتين ايضاً، فمن يُريد التمتع بما تحملهُ الدُنيا من متاع ولكنهُ امتنع عنها بحكم القيود الدينية، كان لُقمةً سائغةً للأفكار (الشيوعية)، فمن نادى (بالشيوعية) في الحرم الجامعي وعد المُتلقي لأفكارهِ بمنزلةً أعلى وارفع من منزلة (المُسلم)، لأنهُ وصف المُسلم بالجاهل المُتبِع للعادات القديمة، المُنصت لأساطير الاولين دون استخدام دليل العقل، فضلاً عن انهُ منح للمنتمين إليه حرية شُرب الخمر وممارسة العلاقات الجنسية كيفما يشاء وعدم الالتزام بأي نوع من أنواع العبادة، أوصاهُ بأن ليس هنالك أي التزامات على عاتقهِ سوى الدفاع عن نظرية (داروين) في نشأة الخلق، ولكنهُ نسى ان يخبرهم شيئا عن الأفكار الماركسية، ونسى في بدء كلامه ان يعرّف لهم معنى (الاشتراكية). هكذا رأيت أوائل ندوات (الشيوعيين) في الجامعة. القسم الاخر كان مُتمسكاً ومُتشدداً لأفكارهِ الدينية، نشأ تحديداً من وسط كلية الشريعة الإسلامية في (جامعة كابل) عام (1958) مُنبثقاً بأفكارٍ جاءت مُتأثرةً بحركةِ (الاخوان المُسلمين) التي أُسِست في (مصر) عام (1928)، كان هو الاخر لقمةً سائغةً لدعاة (التشدد للإسلام) لأنه كان يسمع ضمن الندوات الدينية عن الاجر العظيم (للجهاد) الذي فرضهُ الدين ونص عليه القرآن ولكنهُ لم يجد الحيز الذي يسمح لهُ بالإيفاء بهذه الفريضة المهمة حتى احتدم الامر في الحد من أنتشار الشيوعية، جاء التشدد ليخبره بأنهُ بمجرد تمسكهُ بدينه ونشرهُ إياه ونشر أفكاره بين الوسط الذي يعيش فيه يعتبر بمنزلة الجهاد، أعطى الدليل في نهاية ادعائهِ على ان (الشيوعيين) في منزلة الكُفار، لأن مؤسسيها ليسوا من بلاد المسلمين وافكارها ليست إسلامية، بعد أن جاءت من دول وزُعماء الاتحاد السوفيتي وان كل من أنتمى إليها اصبح بحكم (المرتد). وكان المُتلقي (للتشدد) ذا أذنٍ صاغية، لأن افكارها جاءت تأييداً لما قرأ ولما تربى عليه في بيوت العبادة واكدت لهُ بأن ما قرأهُ في تُراث دينه ليس اوهاماً، وأنهُ ليس كما نعتهُ زميلهُ (الشيوعي) بأنهُ مُتبع للأوهام، منذُ ذلك الحين وهو ينام قرير المبادئ.
أخزُ جسدَ الذكرى فينساب الحنين منه ببطء، أتذكرهُا وهي بريقُ كُل ذكرياتي، حلوى وجودي، مرارة قهوةٍ تلذذتُ بها ذات صباحٍ وأنا اشربُها على عجلٍ لأنني سألقاها. أتذكر أول لقاء لنا، أتذكر جيداً عِناقنا الاول، كانت أول مرة المس فيها امرأة، أتذكر كل ما كنت أنظر إليه وأنا اعانقها، شكل الأشجار التي تحيطنا، لون مقعدنا، الطقس، الظلال الباهتة لأغصان الشجر على الأرض، أثر ضوء أعمدة الطُرقات على الشوارع، أتذكر كل شيء، أتذكر دقات قلبها وأنا اشعرُ بها بين أضلعي، همسات فؤادُها الذي كنت اقطن فيه طيلة تلك السنوات، كانت تُراهن بجمالها ضياء القمر، وتُقامر طلوع البدر بابتسامة ثغرها، كانت تحجب بضفائرها اشعة الشمس، تُبعثر ترتيب النجوم لو تَحركت اجفانها إيماءً بالخجل، اتذكرُها جيداً، اغوص الان في ملامحهُا، تفاصيل وجهها وهي تتكلم، لا زلت الى الان احتفظ بها، لا زلت احفظها عن ظهر قلب.
كنتُ اجلس بالقرب منها اُلوح بيدي كما يلوح الغريق لمنقِذهِ، كانت كلماتي بقربها كـقاربٍ صغير وهي كـالبحر العميق، كنت انسى من أنا لو نَظرت لي، اضحى بقربها اوهن من صوت حفيف الشجر، كنت أهرب إليها من واقعٍ لا يقبل الانصاف، كنتُ أهرب اليها كما يهرب طائر (الكناري) من القفص، كانت لي الأمان بعدما اخافني كل شيء، أهرب إليها راكضاً، كما يركض الطفل لأمهِ بعد سماع صوت الرعد، تمتلُك عيوناً عميقةً والجلوس بقربها يشبه الطقوس (الصوفية)، طقوسهم يشوبها التكرار ونحن نراهم يرددون ابتهالاتهم مع بعض الحركات الجسدية. تتكرر الأشياء قرب (مريم) دون ان تكرر، في كل مرة اراها فيها وكأنني ارها للمرة الأولى، وكأنني لم التق بِها من قبل، كنتُ احبُها بكل ما على الأرض من حُب، تائهٌ بين ما يسرد عقلي من ذكرى وسط هذا الزحام الساكن، خاشعاً في كُل ما اسرد، لكنني تائه، وكأني اُناجي إلهاً لا أعبده، اسرد ما مضى عليّ من أيام وأنا غير راضٍ عن نفسي، امسك بسوطٍ يضحكُ مُتخفياً وأنا اجلدُ بهِ ذاتي، تائه، ولكنني مُتأكد من كُرهي لأبي.
كان لأبي منزلٌ كبيرٌ، قصرٌ يحتوي على الخدم والحرس والجواري، كان الوريث الوحيد لكل ذلك من جدي، وكان جدي يتزعم القبيلة من قبله، ورث أبي عنه كل شيء، المال والجاه والمكانة الرفيعة، إلا العلم، فإن أبي اكتسب العلم بذاته، اكتسبهُ بتطرف وتعصب، ما يقرأهُ هو يكون بالنسبة لنا واجب الاتباع، وما لا يقرأهُ يكون مُحرما حتى ذكر اسمه امامه، احتوى منزلنا على مئات الكُتب، ورث أبي بعضها واقتنى بعضها الاخر، لكنهُ احَسنَ قِراءتها وأجاد التحكم بعقول المئات من اتباع قبيلتنا بموجبِها، كان يجيد ابداء الرأي وإعطاء الفتاوى بحسب ما ينص عليه مذهبهِ فقط، وكل شيء خارج مذهبه وعقيدته كان بنظرهِ باطلاً، وغير واجب الاتباع وأحياناً يصل الى درجة الكُفر، كان أبي يتحكم بمصير قبيلتنا وقريتنا وهو يسكنُ في (كابل)، لهُ العديد من المراسلين والاتباع يأتون ويذهبون كل يوم من (قندهار) الى (كابل)، كان على من يريد رؤيته ان ينتظر لأسابيع، أو لأشهر، إلا أنه كان مواظباً على الذهاب كل يوم جمعة الى القرية لإلقاء (خُطبة الجمعة) على اتباعهُ الذين كانوا بحاجةٍ دائمة لمن يُطمئَنهم بأنهم على النهج الصحيح وأن حسناتهم في تزايد مُستمر، لا شك في ذلك بعد أن اخبرهم بأن جلوسهم امامه وإنصاتهم لخطبتهِ فيها الاجر العظيم، فضلاً عن سيرهم الى المسجد بخطواتٍ عديدة وفي كل خطوة منها حسنة وكل حسنة بعشرة من امثالها، هكذا كان يقول في بادئ خُطبته، فأرى الطمأنينة على وجوه المُستمعين، هم فرحين جداً لأنهم سيدخلون الجنة، اذهب معه مُرغماً الى القرية لأنصت لخطبته، أرى الاعداد الوفيرة التي تأتي من كل أطراف القرية ومن خارجها للإنصات له، اراهم يأتون بعقولٍ فارغة يحملونها كما يحمل الطفل الوعاء، يرفعونها بأيديهم الى الأعلى وهم يجلسون في المسجد كي تمتلئ قَدر المُستطاع من كلام ابي، كُنا في عصرٍ يُسمى بالعصر الحديث ولا تزال العقول تخشى التفكير، تخاف إلا تكون افعالها لا تُرضي الحاكم، فالحاكم هو ظل الله بالنسبة إليهم، اما عن أبي فإن الامر مُختلف، فهو ليس ظل الله فحسب، بل هو المُحيي المُميت، الواهب المانع، القادر على كل ما يقوله، كان كذلك لأنهُ كان يضع الاحكام الفقهية على كل الأفعال حين يأخذ دور القاضي بعد نهاية إمامتهُ للصلاة في كل يوم جمعة.
اصبحتُ في عمر الصِبا وصرتُ اجلس في الصفوف الأخيرة في خطبته، كانت غايتي رؤية رد فعل المُستمعين، احلم بيومٍ أرى فيه شخصا يسألهُ عن مصدر حُكم أو عن سند فتوى معينة، احلم بأن أرى أحدهم يُعقب على قوله، بقيت احلم ولم أر أحد يسأله، بعد نهاية الصلاة، وبعد ان ينهال الجمع الذي كان يصغي لأبي على تقبيل كف يده والتبرُك بعباءته، نذهب الى أحدى بيوت كِبار (قندهار)، كانت مسألة استقباله عادةً يتداولها كبار المدينة، نجلس امام وليمة لا يتمكن من تناولها عشرون شخصا، كان عددنا في الغالب لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، ولكن مكانة أبي في مجتمعه تقتضي البذخ والتبذير، نجلس في كل مرة وأنا أنظر لأبي بغرابة، لأنهُ يقول ما لا يفعل؟ سمعتهُ على المنبر يوصي المُصلين قائلاً: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}  أوصاهُم ايضاً: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}  أنظر لهُ فيُخيب ظني بهِ، اتساءل دائماً، لمَ المسلمون لم يمنحوا الأهمية ولم يُدونوا الحدود ولم يفرضوا التعازير بشأن الاسراف والتبذير إسوةً بالربا والسرقة؟ ألم يمنع الله الإسراف والتبذير بآيات قرآنية؟ ألم يسبق فعل المنع أداة (لا) الجازمة حالها كـحال بقية المُحرمات الواردة في القرآن؟ ألم تستوفي (لا) الجازمة الشرطين الواجب توافرها ليكون الفعل (مجزوما)  تساءلت لمَ لم يتعاملوا معها كبقية المُحرمات الوارد ذِكرها في القرآن؟ ولكنني حين رأيت ملامح الغِبطة على وجه أبي وهو وسط هذا الكم من التباهي والافتخار عَرِفتُ الإجابة.
ينتهي أبي من الطعام فننتهي معهُ على الفور، كان لا يرضى ان يبقى أحد منا من بعده جالساً إذا وقف، يجلس ليتداول شؤون القرية، يجلس على انفرادٍ ولا يجعلنا نسمعه، اختلست السمع ذات مرة فسمعته يأمر بإقامة حد السرقة على احدهم، أوصى بقطع يدهِ من مرفقها، كان حديثه مع مشايخ القرية، ظل ذلك الموقف مُعلقاً بذاكرتي ولم أنسه، حَداً أوصى به كباقي الحدود دون أن يسمع من الفاعل شيئا، كان يستمع الى كبار القرية فقط، اراهم وكأنهم يستأذنوه في إقامة الحَد ليس إلا، يطلبون أحكاماً شرعيةً تُناسب ما يرومون فعله، كان لا يتردد في سرد الاحاديث النبوية وأقوال الاسلاف في كل قرارٍ يعطيه، لم أره يوماً يتكلم من دون دليل أو سند فقهي، ولكن عن أي فقه يتحدث وأساس البُنيان خاطئ، بلغتُ من العمر ما يكفي لأن تبلُغ افكاري درجة التفكُر، بدأت أبحث وأتساءل لمَ كُل هذا، لمَ هذا الظُلم؟ لمَ لا يسأل أبي عن السارق قبل ان يأمر بقطع يده؟ لمَ لا يسأل عن مستواه المعيشي ومقدار دخله؟ لمَ لا يسأل عن ماهية ما سرقهُ؟ هل سرق الطعام ام شيئا آخر؟ لمَ يأمرهم بأن يقيموا الحد في السر وليس امام أنظار الناس والدولة؟
سمعتُ صوتاً يقول لي: لمَ لم تَطع اباك؟
عُدتُ من ذكرياتي الأليمة الى تلك الشجرة التي اتكئ عليها بعد سماعي لذلك الصوت، يسألني ذو الرداء الأبيض لمَ لم اطع ابي؟
سألتهُ: هل ستقول لي من أنت؟
اجابني: كلا
قلت: إذا اردت التحدث معك كيف اناديك؟
قال: انا قرينك.
اجبتهُ بهدوء: يا قريني، انا لم أطعهُ لأنني ابغضه.
قال: لمَ تبغضه؟
قلتُ: لأنهُ ظالم، ظالم حد البشاعة، لم انس وجه تلك المرأة، ظل يلاحقني لأعوام.
قال: أي امرأة؟
حدثتهُ عن امرأةً كانت السبب في أن اعيد النظر فيما أؤمن، كانت نقطة التغيير، بدأتُ بسببها اتفحص كل ما كنت اتبعهُ إتباع الاعمى ...
في يومٍ مُمطر، وقفت مع أبي بعد تجوالٍ صغيرٍ في القرية امام حُفرة وضِعَت فيها امرأةً كانوا يرمونها بالحِجارة، دفنوا نصف جسمها السُفلي وقيدوا ذراعيها، كانوا يرمونها بالحجارة ويقولون "فليغفر الله لكِ" لم اعلم ما الذي اقترفته، الامر غريب، كيف يضربونها ويدعون لها بالمغفرة في ذات الوقت! فعلت كما يفعلون، قال لي ابي: "إضربها لتكسب الأجر" ظلوا لدقائق يقذفُونها بالحِجارة وأنا معهم، ولكوني كنت اصغرهم تقربتُ منها وأنا مُستمرٌ بضربها، نَظرت لي والدم يخرج من فَمها، ضربتها بكل الحجارة التي كنت احملُها بيدي، حتى بقيت اخر حجارة، توقفتُ ومن معي عن ضربها بعدما رأينا رأسها يتدلى لجهة اليسار، صحتُ بصوتٍ عال: "ماتت، ماتت، الله اكبر" التقطت انفاسُها الأخيرة وهي تنظر لي، تقربتُ منها لأتأكد من أنها ماتت، نظراتُها لي ارعبتني، تقربت منها، وجدتُ رأسها قد تهشم قليلاً، نظرتُ في عينها فرأيت دمعة على طرفها، نزلت وأنا أنظر لها، كان موقفاً شديداً على عمري، لم تُفارقني تلك النظرة ابداً، بقيتُ لثوانٍ أنظر لوجهها بدهشة، حتى اخذ أبي بيدي وسرنا بعيداً عنها، سرنا وأنا التفت لها حتى ابتعدنا.
يسألني قريني: هل كُنت تعرفهُا؟
قلت: كلا.
قال: لمَ حزنتُ عليها إذاً؟
قلت: حزنتُ عليها حين اكتشفتُ بأنني ارتبط بها برابطة أسمى من روابط القرابة والقومية والعِرق، كانت تربطني بها رابطة (الإنسانية)، منظر دمعتها وهي مُعلقة بين اجفانها ظل بأذهاني، وقتها سألتُ نفسي وانبتُها، لمَ ضربتها؟ ألم يتوجب عليّ ان اعلم بجُرمها؟ وإن عرفتُ جُرمها، لم هذا الحُكم؟ اين الأدلة؟ اين الشهود؟ لمَ أنا من يُحدد عقوبتها؟ لم أكن بالغاً لسن الرشد بعد.
يسألني قريني: وبسبب ذلك كرهتَ اباك، أليس كذلك؟
قلت: كلا، هذه كانت البداية، من هنا بدأتُ بالتفكُر، ثُم مضيت قُدماً الى أن وصلتُ الى قناعةٍ تامة بأنني يجبُ ان أكرهه اشد الكُره.
أن تُخالف واقعك ومحيطك الذي تعيش فيه فهذا ليس بالشيء اليسير، صعب جداً ويزداد الأمر صعوبة منذُ البدء بالاستغراب من واقعك، وقتما تجد أنك على خطأ بعد مُضي سنوات من اتباعك لأشياءٍ كُنت تتبعها بقلبٍ هادئ وعقلٍ هانئ، موقفٌ عصيب وقتما تكتشف مُعتقداتك بأنها قد صُنعت من رمال شاطئ، هدمتها أول مُوجة تفكير فساوتها أرضاً.
وأنت على هاوية البحث في مُقدسات دينك، تجد نفسك بين خيارين، اما ان تبقى ضمن واقعٍ كاذبٍ تشمئز منهُ نفسك لمُجرد أنك تعيش في حيزه، أو ان تهوى وأنت لا تعلم ما سيؤول إليه مصيرك، ما الذي ستلقاه أسفل الهاوية، على الهاوية أنت بأمان لمجرد أنك تقرُ بالبقاء، ولكن ما ان تُقرر القفز فالأمر الى ما سيؤول؟ لن تعلم. حتمية الاحداث من حولنا تمنعنا من أن نهوى لمِا بعد الهاوية، هكذا يقول لنا المجتمع، يقول دائماً بأنها حتمية، عاداته تخبرنا كل يوم بأن كل شيء حتمي وعلينا الالتزام بذلك، الدين أخبرنا ايضاً بأن كل شيء مكتوب في لوح القدر، ولكن ابسط سؤال يتطرق الى اذهاننا وقتها، ما الداع؟
ينعدم هذا السؤال حين يكون الداع قوةً ما في داخلنا تمنعنا من النوم، قوةً تجعلنا مستيقظين اغلب أوقات اليوم وعموم أوقات السنة، اما في حال عدم تطرق هذا السؤال الى البعض فإن حتمية الأمور ستقضي على أي تساؤل قد يتطرق الى اذهانهُم وستقضي القُدسية الممنوحة بُحكُم الدين على ما تبقى من نوايا للتساؤل، لأن الشك في أصول الدين وجذوره نوعاً من أنواع الكُفر، اما عن أولئك الباحثين عن الحقيقة، فلن يهدأ بالهم طيلة أيام حياتهم، لن يناموا النوم الهانئ، لن يتساءلوا عمّا ستؤول إليه نهاية الهاوية التي يقفون عليها لمجرد انهم مروا بالموقف الذي مررتُ به، لو أنهم رأوا اخر دمعة ذرفتها تلك المرأة، لعرفوا حجم الندم الذي انتابني وغلاظة السوط الذي جلدتُ به ذاتي، هؤلاء سيقفزون، كما قفزتُ انا، قفزت وسلمتُ أمري لما سأكتشفه وللنتائج التي سأحصل عليها.
قررت إن لا أكون من عبيد أبي واقواله، إلا أكون ضمن القطيع الذي يتبعهُ، لم اكن أريد ان انشأ على شاكلته، لم اكن أريد ان أكون مثلهُ حين اكبر، أصبحت بسببهِ اكره كل شيء يفعله وأود ان افعل اضداد افعاله، من دون أي سبب حتى وان كنت غير مُقتنعٍ، اردت ان انشأ صالحاً، ان أكون مسؤولاً عن جميع افعالي بقناعةٍ وليس مُلقَناً بها، افعلها لأن الاسلاف فعلوها وهذا ان ثَبُت بالدليل القاطع، ولكن من أين لي بالدليل القاطع، وكل شيءٍ أبحث عنه اجدهُ من اقوال (فلان عن فلان)، لم اكن أريد ان أكون مثله .. عارياً بين الجواري.
قاطعني قريني مُتسائلاً بغرابة: هل كان لأبيك جوارٍ؟
اجبتهُ باستغراب أكبر: انا لم أتكلم، كيف عرفت؟ الأفكار تُسرَد في خاطري فقط، انا لم اتفوه بكلمة!
قال: لا تسأل عن كيفية ذلك، انا اشاركك كل شيء يمر على اذهانك هُنا، حتى وإن لم تخبرني به، أنصت لعقلك الباطن، تكلم ان شئت، وإن شئت تذكر فقط، أنا بكلَتا الحالتين أسمعك.
قلت: ارجوك أخبرني ماذا تريد مني؟ لمَ تحتجزنُي؟
قال: ستعرف فيما بعد، ابق جالساً كما انت وأخبرني، هل كان لأبيك جوارٍ؟
قلت: نعم، كان لهُ جوارٍ، تشاجرت معهُ ذات يوم بعد أن فتحتُ باب النقاش معهُ خلال حديثُنا لما بعد الصلاة، تحججتُ بأنني مررت بنقاشٍ انتهى بسِجالٍ مع أحد المشايخ في الجامعة، كان بصدد احكام الجواري والإماء.
سألتُ أبي وقتها، وأنا اتصنع السذاجة: أبي، لمَ الناس منقسمين الى حُر وعبد؟
اجابني: الحُر من كان ابوهُ حُراً، والعبد من كان ابوهُ عبداً.
قلت: وما ذنب المولود عبداً لأن أباه كان عبدا هو لم يملك حق الخيار بين العبد والحُر ليختار أن يكون عبداً، الى متى سيبقى العبدُ عبداً؟
نظر لي نظرة اشمئزاز، قال: وما شأنك انت وشأنهم؟
قلت: أبحث عن إجابة لسؤالي فحسب.
قال: ولمَ تسأل؟ جعلتكُ تُكمل تعليمك في المدارس الدينية ثُم الالتحاق بكلية الشريعة الإسلامية في الجامعة، وفي النهاية تأتي لي بهذا سؤال! اين تعليمك في الفقه؟ ألم تقرأ عن فتوحاتنا الإسلامية؟ ألم تَطلع على امجادنا في إذلال بلاد الكفر والكُفار وجعلهم يدخلون الإسلام؟
قلت: نعم، اطلعت.
قال: عجيبٌ امرك، ألم تعلم ان غنائم فتوحاتنا كان فيها أسرى يتم اسرهم بحرب الفتوحات؟ هؤلاء هم من أصبحوا فيما بعد إتمام الفتوحات عبيدا وجوارٍ لنا.
نظرت لهُ لثوانٍ متواصلة، لم أجبهُ بشيء، بقيت أنظر الى حجم الغضب الذي يخرج من عينيه وهو يتحدث. كان يُريد مني إجابة لا تكون وفق ما يعتقد لينهال عليّ بالضرب، استأذنت منه لأتركه، اصطنعت امراً لأنشغل به واذهب إليه، ظلت نظراته تُلاحقني وأنا أهم بالوقوف، بدأ يشعر بأنني لست على شاكلته، لكنهُ تأكد من ذلك بعدما ارسل شخصاً ليسأل عني في الجامعة، عَلِمَ بأنني لم اكن مواضباً على الدوام وكثير التغيُب عن الحضور لبعض ايام الأسبوع، لم اناقشهُ أكثر، منهجه كان يُحرم النقاش، لكنهُ كان غاضباً أكثر من أي مرة اراه فيها، في كل مرة ينهي نقاشه معي ليقول بأن الجدال عقوبةً من عقوبات الله في الأمة، مُستنداً لقول النبي: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل"  ثُم يُعزز تحريمهُ للنقاش وهو يسرد الآية: {ما ضربوه لك إلا جدلاً} 
صَببتُ غضبي ليلتها في البحث في فهرس كُل كتاب يدلني على حُجية العبد والحر، اردت ان اعرف علامَ استندوا في ان يكون ابن العبد عبداً، نحن في القرن التاسع عشر الميلادي والثالث عشر للهجرة، هل تبقت فتوحات؟ لمَ لا يزال في منزلنا جواري وإماء؟ من أين اتوا بهن ولا توجد فتوحات؟ الغالبية في بلادنا تعتنق الدين الإسلامي، فمن اين مصدرهن؟
ابي يكذب ...
من اجل نزواتهِ يكذب، لا أرى أمر الجواري منتشراً بين مدن (افغانستان)، المُباح مُباحٌ لهُ فحسب، يتعاملون معهن بسرية، كل مرة نذهب فيها الى قريتنا يتعامل أبي في شرائهن وبيعهن، لمَ لا يظهر للعلن؟ لمَ لا توجد أسواق لبيعهُن كما في السابق كما كان يفعل المسلمون حين يشتروهن ويكشفون عن اجسادهن امام عامة الناس؟ لمَ مدننا تخلو منهن في اغلب البيوت؟ لمَ هُن متوافرات في منازل الزُعماء فقط؟
ابي يكذب ...
بعدما قررت ان أضع ثقتي في (القرآن) وان أضع كل الشك في كتب الفقه، بحثت في كل الفتوحات، وجدت الآية: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَهَا}  وجدتُ الله يأمر المسلمين بأن يكون وضع الاسرى بين امرين، بحسب ما جاء بتفسير (الطَبري) الذي اقنعني تماماً، تفسيره جاء وفقاً لما ورد في النص وحرفياً دون ان يضيف حادثةً رويت عن فلان أو يعطي تفسيراً لمفردات النص بحسب هواه، فسر الامر قائلاً: "إما أن تمنوا عليهم بعد ذلك بإطلاقكم إياهم من الأسر، وتحرروهم بغير عوض ولا فدية، وإما أن يفادوكم فداء بأن يعطوكم من أنفسهم عوضا حتى تطلقوهم، وتخلوا لهم السبيل"  ولكن، من اين جاءت فكرة (الإماء)؟ بعد البحث ايقنتُ بأنها جاءت من تُراث مَن حَكمنا والذي سُميّ فيما بعد (بالفقه)، لم ينص القرآن على وجودهن، اشار الى وجود (مِلك اليمين) فحسب، إلا أن نزوات من كان على شاكلة أبي فسر الامر (بالإماء) ليُلبي كل ما تفرضهُ عليه نزواته، ليعيش كما تعيش الخيول في الإسطبل متى ما توافرت شهوته يمارس الجنس، لا يكبتهُ شيء، بل بالعكس، وفر العديد من الحُجج والبراهين كي يضفي السند الشرعي لممارسة البَغاء، ليظن حين ينتهي من ذلك انهُ سيؤجر بالحسنات على ما فعله، لأنهُ طبقَ شرع الله الوارد إلينا من كتب الدولة الاموية.
يسألُني قريني: ما الفرق بين (مِلك اليمين) و(الإماء)؟
اجبته: فسر الفقهاء الآية: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن و... وما ملكت أيمانهن}  بأن مِلك اليمين هي تلك التي يتم اسرها في الحرب لتبقى جارية وتلد الجواري والعبيد، تغاضوا عمّا جاء في الآية: {فما الذين فضلوا برادّي رزقهم على ما ملكت أيمانهم}  تجاهلوا بحكُم عطشهم الجنسي بأن (مِلك اليمين) هو كل من وقع تحت الرعاية والإشراف والمسؤولية، ولشدة هذا العطش لم يكتفوا بامتلاكهن فحسب، بل تجاهلوا كل قيد أو شرط يحدُ من هذا الامتلاك، كأن يكون عدداً محدداً أو منحهُن بعض الحقوق، أو جعل امتلاكهن وفق قيودٍ أو التزامات، جعلوهن كأدوات المنزل، يمكن لأي منهم امتلاكها لمجرد انهُ شارك في الحرب، له ما يشاء منهن دون ان يرتبط بعقد، ما عليه سوى ان ينظر الى بطنها ان كانت حاملاً منه أم لا، فإن كانت كذلك فأنهُ لا يهبُها ولا يبيعهُا ولا يُعيرها لأحد، فهذا الشيء مسموح لطالما انه سيدها ومالكها، وإن لم تكن حُبلى، فالأمر جائز.
يمتلك الفقه حُكماً لوجود (مِلك اليمين) ورد في أقوال السَلف، جاء في كُتب السيرة بأن (عمر بن الخطاب) قال بأنه كان جليس النبي وطلع عليهم رجل بشعر اسود وثياب بيضاء اتضح فيما بعد بأنه (جبريل) يخبرهُ بأن من امارات الساعة (أن تلد الأمة ربتها) ، وبغض النظر عن وجود (جبريل) ومجيئهُ بهذا الشكل، إلا أنهم استندوا لوجود (الأمة) بهذا الحديث كما استندوا لوجود كلمة (نكاح) تسبق (مِلك اليمين) ليكون مُباحا، مُتغاضين عن ان كلمة (النكاح) في القرآن ذُكِرت للزواج المشروط بعقدٍ وليس (النكاح) هو مجرد الاتصال الجنسي والدليل في الآية: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن}  كيف يمكن ان يكون (نكاحا) دون مساس! تغاضوا ويتغاضون كلما مس الامر مُتعتهم التي جاءت تجارة مع الله، وما انفع هذه التجارة، الربح والأجر فيها وفير وضمان الجنة أكيد والتمتع بدار الفناء مُباح، في اعتقادهُم الحياة دار فناء ولا يتشبث فيها إلا امثالهم، شرطَ الله عليهم في القرآن بأن يكون تعدد الزوجات بسبب، والسبب وهو ان يتزوجوا بُغية إيواء وتربية اليتامى، شرط عليهم بأن يكون هنالك يتامى كي يتمتعوا بأكثر من زوجة، ولكنهم فسروا الامر كما تحلو الحياة لهم، وبحسب حُب التملك المُتوارث منذ العهد الاموي، صار لهم مثنى وثلاث ورباع دون قيد أو شرط، اقتطعوا الجزء المفيد من الآية وتركوا الباقي.
يقول قريني: هنالك قواعد للغة العربية أنت غير قادر على فهمها بالكامل، الفقهاء فسروها بأنها كذلك، لمَ انت معترض؟
أجبته: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا}  لم يثير اهتمامهم وجود أداة (إلا) أو أداة (أو) لتخيرهم بين الزواج بواحدة أو (ملك اليمين)، مُتعة الزواج بأربعة اعمت بصرهُم وبصيرتهم.
رددتُ مُجدداً، أبي يكذب ...
ليس هناك في الدين جوارٍ ولا عبيد، أنهى الإسلام العبودية حال انتشاره وساوى بين السيد وعبده، إلا أن هذه المساواة لم تعجب من أسَس (فقه الإسلام) ووضع أول كتاب سيرة نبوية بعد أكثر من (130) عام من وفاة النبي واتلف كل ما كُتِبَ أو شُرِع أو أُرِخ من قبل كي لا يعارض ما أراد لهُ ان يكون بمفرده، كل ذلك كان في عهد الخلافة الاموية.
ابي يكذب ...
يكذب كي يكون برفقتهن بتلك الغِبطة المملوءة بالنشوة، كم كنتُ أكره سماع صوته وهو يذهب معهن للاغتسال، اتخيله عارياً بينهن دون ان يعترض عليه أحد، يتوجب عليه ان ينجب الكثير من العبيد والجواري كي يخدموه ويخدموا أولاده من بعده، هكذا تقول نساؤه الأربعة اللائي في بيتُنا.
يقول قريني: اهدأ، لا تصرخ.
قلت: لم أكن اصرخ، كنت أفكر فقط.
قال: كلا، كنت تصرخ.
قلت بإنفعال: قلت لك لم أكن اصرخ، كنت أفكر فقط.
قال: كنت تصرخ، انت لا تشعر بنفسك حين تسرد افكارك، انت ترجع من هذا العالم الى العالم الذي كنت تعيش فيه في الدقائق التي تستذكر فيها حياتك.
اجبتهُ بغضب: لمَ لا تلتفت لي؟ أريد معرفة من أنت.
قال: ليس الان.
تركتهُ غاضباً وسرتُ بعيداً عنهُ بخطوات، لم تُوقفني السلاسل التي تتشبث بيدي، سرتُ باحثاً عن إجابة لكل سؤال في خاطري، اين انا؟ ولمَ انا هنا؟ وكأني أتجول في متجر عمر الصِبا، أختار ما يتسنى لي من الذكرى، اسردها وأنا أتألم، أتألم كثيراً، لا ألم فاق حدود التعبير غير ألم فراقها، حبيبتي، تلك التي تُغرد كُل عصافير الوطن حال استيقاظها عند الصباح، تتساقط مليارات النجوم لو وضعت الكُحل حول اجفانها، تمايُل خصرها فيصلاً بين الهداية والغواية، نظراتُها معطف أضعهُ على كتفي في الليلة الماطرة، اسيرُ بخطواتٍ نحو التيّه وأنا افتقدُها، كنت برفقتها اجمل، كنت املك الدنيا بما فيها، كنت في غنى عن كل من كان عليها، اختصرتَ الخَلق بأكمله حين خُلقت، جميلة وجمالها يأسرُ كل ناظر، اسير بخطواتٍ تفتقدُها، كانت برفقتي كل يوم، قضيتُ برفقتها أياما لم اقض كمثلها أيام، كنت برفقتها انسانا، قبل ان يقتَلُ فراقُها ذلك الانسان الذي عاش بداخلي؛ قبل أن يشنُقني غريباً فكُّ ضفائرِها ولفها حول شرايين قلبي، ما كان لي من وقت إلا واختليتُ بها من جور ما حولي، ما فكرتُ لبرهة من الزمن إلا وكان ذِكرُها جُل افكاري، شَعرها وهي تدفعهُ وراء اكتافها، وهي تلتفتُ لي حين احدثُها، لحظاتٍ تُثير الدهشة، النظرُ لملامِحها وهي تتحدث كالنظر لأمواج بحرٍ وهي ترتطم، رؤيتها عند الصباح كانت كأبيات شعرٍ في حب الوطن لشاعرٍ فلسطيني يُندد بمن احتل وطنه.
كان مُجتمعنا آنذاك يحترم الحُب، ولكنني نشأتُ في منزلٍ ينعت الحُب بشتى الالفاظ النابية، يختم كلامهُ حين يتحدث عنه بوضع الحكم الشرعي له (بالمُحرم)، كانت الحياة جميلةً جداً بغض النظر عن وجود أولئك الإسلاميين الذي فهموا بأن (التدين) هو الابتعاد عن الحياة وليس الابتعاد عن المُحرمات، كنت أعيش حياتين مُنفصلتين في آنٍ واحد، كان هناك ثمة حاجز اجتازهُ كل يوم وأنا ذاهب لألتقي (بمريم)، أعيش في بيئتين، احداهما اراها في البيت والأخرى كانت تحيط بي في الخارج، كانت أوسع منها لأنها ضمن عالم يواكب الحداثة ويواصل ما توصل إليه العالم من ثقافة وعلوم، كنتُ حلقة وصل بين بيئتين تبغض احداهما الأخرى، كان مُجتمعنا في الاغلب، اما (شيوعي) يدّعي التطور، مستعد للدفاع عن أي فكرة لمجرد انها تُعارض دين (الإسلام)، وعلى أهبة الاستعداد لمُعارضة أي فكرةً أو مبدأً اقرهُ (الإسلام) ضمن مبادئهِ، وأما (إسلامي متشدد) يُعارض اي فكرة لمجرد انها لم ترد في كتب السلف الصالح، يتبنى أي مبدأ ارتبط انبثاقهُ مع قصةٍ لأحد الصالحين، لتكن على شكل (حديث نبوي)، يُدافع ويتبنى أي فكرة تكاد من شأنها ان تهد اركان الإسلام جمعيها في إيمان شخصٍ لمجرد انهُ يقرأها، كما حصل معي. ينتابني ندم كبير لأني اشتركت في رجم زانية بحسب حكم الرجم في (الإسلام)، ظل سوط الندم يؤلمُني فأمكثُ طويلاً بين طيات الكُتب لأجد دليلاً واحداً يبرر فعلتي برجم تلك الزانية التي لم تفارق دمعتها ذهني، بحثتُ كثيراً بين طيات الكُتب وبقيتُ طويلاً مُعلقاً بين رأي مؤيدٍ ومُعارض، حتى وجدتُ ضالتي حين قرأت في (صحيح البُخاري) ما رواهُ عن (عمرو بن ميمون): "رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدَةً اجْتَمَعَ عَلَيْهَا قِرَدَةٌ، قَدْ زَنَتْ، فَرَجَمُوهَا، فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ"  عرفت وقتها أن حد الرجم جاء استنباطاً من حادثٍ وقع بين قردة!
بين هاتين البيئتين، حائرٌ الى أيهما انضم؟ ايهما اتّبع وكلاهما خاطئ؟ كيف انفصل عن بيئة أبي وهو بهذا الحجم من النفوذ والسلطة، كيف لي ان اسير عكس اتجاهه؟ اضحيت جسداً بلا روح، قلباً بلا نبض، اضحيتُ بلا مأوى لولا وجود (مريم) في حياتي الشاردة، كانت ملاذي الامن، كنتُ اراها خِلسةً لئلا يراني أبي أو أحد أولئك الذين يقَبّلون يده بعد كل صلاة، كنت اخرج من البيت الى الجامعة وأنا اشعر بأن هنالك من يترقبني، تُراودني كثيراً فكرة أن أبي وضع عليّ رقيباً يتتبع افكاري، لم اعد التحق بمحاضرات كلية الشريعة الإسلامية، تركت الدوام بشكلٍ تام، قررت ان اواجه أبي بذلك، ولكن انتابني الخوف حين فكرت في القول لهُ صراحة بأنني لم اعد أريد دراسة.
مرت الايام ولم يقلُ لي أبي شيئا، اذهب الى الجامعة لألتقي بمريم واجلس برفقتها لساعتين أو أكثر ثُم أعود ادراجي وأنا امتلك من الفرح ما لم تمتلكهُ الأمهات الاسرى لحظة إيقاف الحرب، كنت اقطفُ لها الورد في كل صباح، وفي كل مرة أرى غصن الورد يلوي نفسهُ لحظة اهدائي إياه لها، لينظر لها، لهُ الف عذر لئلا يُصدق جمالها، كان كذلك وهو بين يديّ وأنا اقدمهُ لها، تبتسم وتأخذهُ مني، فأرى الغصن الصغير يرفع رأسهُ الى الأعلى، تتجه الوردة نحوها لتبقى مفتوحة (التُويِّج)، تنظرُ لوجهِها الحَسِن، انهارٌ من الرقة تنحدر من اطراف مبسمِها، تمنحني وافر الامل وأنا جليسُها وسط هذا المجتمع المُتباهي بالجهل والفقر والعبودية، كانت أول مَن يبتسم بوجهي الكامد المُلتحي، لم التق بغريبٍ قبلها إلا ونظر لي بهاجس الخوف، (الغريب) هو كل من لم يكُن على شاكلتنا، مُلتحٍ وذا رداءٍ إسلامي، ابتسمَتَ لي لتمنحني موانئ الطمأنينة لترسو عليها سُفن امنياتي، لطالما كانت لي المرفأ كلما هربت بقارب العقل من واقعٍ جاهل، احتوتني وأنا تائه بين الشك الذي زرعته بأفكاري تلك الكُتب والبحوث التي كانت في القبو وبين الإيمان السادي الذي اورثهُ لي أبي بحكم تعاليمه وسوطه.
وقتما جلسنا برفقة بعض للمرة الأولى، كنت في حيرة من اين ابدأ، الحيرة الأكبر كانت كيف ابدأ، كيف لي ان ازيح كل ما أنا على هيئتهِ لأعرفُها بنفسي التي باتت ضد نفسي، ظلت تُحدقُ في عيني وأنا أحدثُها، لم تنظر الى أي شيء من حولي سوى عيني، منحتني القوة لأفصح عمّا اريد، منحتني الأمان، منحتني حياة، تلك الحياة التي كنت اتوق لعيشها بعيداً عن الكبت والوجع، اردت ان تكون شريكتي في العقل والروح لتكون بعدها زوجتي، وليس آلة انجاب مكَسوةٍ بالسَواد، كانت بانتظاري، في ذلك المكان الذي اخبرتُها بأنني سأنتظرُها فيه، احمل بيدي كتب الفقه لأتظاهر لو صادفني احداً من اتباع أبي بأنني ذاهب كعادتي الى الجامعة، جلست بقربها، نظرتُ الى عناوين الكتب ثُم وضعتها بقربي، خجلت منها كما اخجلُ من مظهري وقيافتي التي لا تواكب الموضة، لأنها بُدعة، كنت ضئيلاً امام اناقتُها.
قلت لها: أنا (أمين).
قالت: مرحباً بك، انا (مريم).
ثوانٍ من الصمت بيني وبينها جعَلتَنا نتبادل الابتسام، حركت رأسها بشكلٍ مائلٍ ثُم ابتسمت ابتسامةً اشد اثارةً من تلك التي سبقتها، كررت ابتسامتها فأصاب مجرتنا الكونية صُداعٌ شديدٌ، تبعثرت خطوط الزمن وارتطمت الكواكب بعضها ببعض، شِكل وجنتيها وهي تبتسم أوجد اختلافا كبيرا في حساب السنين الضوئية بين كوكبنا وكوكبٍ اخر لم يُكتَشف بعد، اختلف الزمن الذي سبق ابتسامتها عن الزمن الذي تلاه، جعلتني ابوح بكل ما اردت كبتهُ عنها، وجدتُ نفسي أحدثها بحُريةٍ تامة، لم تقاطعني، انصتت لي وكأنها تريد ذلك، لم تكن مُرغمة على شيء، لم تكُن لي الاعجاب كما كنت اكُن أنا لها، ولكنني فرضتُ ذلك بعدما مَنحتُ لها الثقة لأخبرها عن اسراري، حدثتُها عن كل ما كان يخيفني، عن كل ما كنتُ أخاف ألا اخبر بهِ احداً، وحين انتهيت، اخبرتني بأني انسانٌ جديرٌ بالاحترام والتقدير، انهيتُ حديثي دون أن اتغزل بها، وهذا اجحاف صريح بحق جمالها، أنا حتى لم اخبرها عن اعجابي، حدثتُها مُنتهزاً لكُل لحظة مرت عمّا ظل جاثماً على صدري طيلة تلك السنوات، لم اعلم السبب، هل كان شعوراً لا ارادياً مني لأوّضح لها بأنني لستُ كما تراني؟ ام حِقداً مني على واقعٍ يُحيط بي وما إن وِجدتُ فرصة لأشفي غليلي منه؟ لمَ فعلتُ ذلك؟ لم اعلم السبب، كان لقاؤنا مُثمراً، بَقيَت بصمات جمالها على روحي ولم تزل الى الان، أتذكر ملامحُ وجهُها جيداً، انصتت مريم لروحي قبل الانصات لكلامي، هكذا قالت لي حينها، قالت لي ايضاً انها التقت الشخص الذكي المُناضل من اجل مُعتقداته، ولَكم يعجبها الرجُل الذكي.
على مَر لقاءاتنا، حدثتها عني وعن نشأتي المُظلمة والمحشوّة بالجهل والخُرافات، حدثتها عن أبي فتعجبت كثيراً حين عرفت بأنني أبن الزعيم الديني الكبير (حميد الله)، تعجبت من نفوري من هذهِ السلطة التي نمتلكها والتي تفوق قوة سياسيي الوطن، تعجبت من نفوري من الجاه والمال اللذين في حوزتنا، تعجبت من كُرهي الشديد للترف الذي نحن عليه، حدثتُها عمّا نملك من ارواحٍ بشر، بأيدينا نحييهم وبأيدينُا نمُيتهم، تَعجبَتَ لأنها من (كابل) ومسألة (العبودية) ليست بالشيء المُعتاد، إلا ما ندر. (العبودية) تُمارس بالخفاء، ولكنها في العلن في القرى البعيدة عن مواكبة التطور، القُرى والمدُن من غير العاصمة لم تكُن عِرضةً للحداثة والتطور، مُنغلقة على الدوام على ما يسردهُ زعيمها الديني أو القبلي، يفعلون ما يقولهُ تجنباً للسخط في الدنيا والآخرة، حدثتُها عن القبو الذي كنتُ ادخله خِلسة، حدثتُها كيف كنتُ اراه كنزاً لا ينضب، مكان غيّر مجرى حياتي، منحني عقلاً بدل ذلك العقل الذي خطفهُ أبي مني، منحني حُب القراءة والبحث والإطلاع كي اسير مرفوع العقل، منحني العلم الذي مكنني من أن اواجه به خالقي حين يُحاسبُني عمّا فعلتهُ في حياتي، اواجه حِسابي وأنا لستُ خائفاً، قدر تعلق الامر بأيماني بديني ومعتقداتي وكل ما ارتكبتهُ بموجبِها.
كان القبو عبارة عن صناديق مملوءة بالأوراق، بعضها مُتسلسل وبعضها الاخر مُبعثر، قمت شيئاً فشيئاً بجمعهُا وقراءتها، احتوى في الغالب على كُتبٍ علمية كُتِبَ عليها (ممنوعة من النشر والتداول)، احتوى ايضاً على مقالاتٍ وبحوثٍ تناقش احكام الدين وتُقارنهُ بالعِلم وبأدلةٍ غريبة، الغريب أكثر، ان جميعها لا تحمل اسم، لم اعلم وقتها من كتبها؟ ولمَ هي في بيتنا ونحن اسرة متشددةً لدين الإسلام؟ هل يعلم أبي ما يوجد في هذا القبو؟ أم انه لا يعلم؟ احتوى منزلنا الكبير على الكثير من الغرف والخدم والحرس، لم تكن ولادتي فيه إلا أنني نشأتُ فيه بعد أن انتقلنا للعيش فيه، سمعت انهُ كان لعمي، ذات مرة رأيت لهُ صورة صغيرة بين طيات كتابٍ أخذها أبي مني عنوةً، لم يكن يسمح لنا بالسؤال عنه، لم يخبرنا عنه شيئاً.
كان (جدي) أحد كبار قبيلة (البشتون) في عموم (أفغانستان)، إلا أنه وفي أواخر أيام حياته تمكن من عزل جزءٍ من قبيلتنا عن بقية قبيلة (البشتون)، وبعد وفاته تولى أبي شؤون القبيلة ولكن على نطاقٍ أوسع، تمكن أبي من أن يُنشئ تكتلاً دينياً كبيراً لا يضم قبيلتنا فحسب، بدل ضم الكثيرين بحكم وحدة الدين الاوسع نطاقاً من وحدة القبيلة، أصبح فيما بعد أحد اكبر زعماء (أفغانستان) ومن القلائل الذين يمتلكون زمام عقول الناس وأرواحهم وأملاكهم، اصبح لهُ حرسٌ على أبواب المنزل وخدمٌ وإماءٌ وجوارٍ وزوجات اربع. حين كنتُ في مرحلة الصِبا، كان أبي مُتزوجاً من اثنتين، تزوج بعدها أثنتين ليستنفذ كل ما منحهُ الرب من رخصة في التمتع الجنسي وإنجاب اكبر عدد من المُغيبين عن الواقع بحُكم عظمتهُ ومكانتهُ، كان يفكر في كيف لهُ ان يضع خليفتهُ من بعده، كنتُ انا غايتهُ الوحيدة وشغلهُ الشاغل لأنني كنت اكبر اولادهُ من الذكور، يمتلك صبيين اخرين كانا يصغُراني ببضعِ سنوات، كان لهُ الكثير من البنات حتى بات غير قادراً على حفظ اسمائهن، كنتُ في عُزلةٍ نسبيةٍ عن كل هذه العائلة الكبيرة، بعدما اضحت القراءة منفذي الوحيد للطمأنينة، الاجتهاد في دروس الجامعة كان ذريعتي، كان أبي من اشد المُرحبين بهذه العزلة ظناً منه بأنها كانت تصنعُ مني رجل دين قَيماً مثله، ارادني ان اتقن الفقه وكل ما قالهُ الفقهاء لأكون سندهُ في تخدير قبيلتنا واستمرارهم في اتباعنا اتباع الاعمى، من اجل ان ننعم بالجاه والمال أكثر، ومن اجل ان تكون تجارتنُا تجارة مع الله، وما اعظمها من تجارة، كانت تجارة (بالله) وليست معه.
سمعتُ قريني ينادي عليّ سائلاً: الى اين تريد ان تصل؟
انتبهت لنفسي وانا قد ابتعدتُ عنهُ والسلاسل تنحدر مني إليه، طالت بي الذكرى وأنا سائرٌ باتجاه العدم، أنظر الى ما حولي من سهلٍ اخضر وسماء واسعة، لا شيء استدُل بهِ عن هذا المكان، السكون ذاته، وكأن لا يوجد هُنا سوانا، أنا وقريني، اراهُ يجلس كما كان، عدتُ اسير باتجاهه وأجيبه ...
ناديتُهُ: لا تخف، أنا لا أحاول الهرب.
قال بنبرةٍ ضحك: لن تتمكن من الهرب، لا يوجد مخرجٍ من هنا.
اجبتهُ: وكيف لي ان أبحث عن مخرج وأنا مُكبلٌ بهذه القيود، أنا لا أتمكن من الابتعاد أكثر.
قال: تستطيع ان تبتعد قدر ما تشاء، لن تمنعك السلاسل، ولكنها ستعيدك الي.
قلت: أنا آتٍ إليك.
قال: لم أسألك عن طريقك، سألتُك عن أفكارك؟
وأنا عائدٌ باتجاههِ، أرى بُركة ماء تبعدُ عني قليلاً، كان لونها كاللون السماء، زرقاء صافية، لا يحيطها أي شيء ولا يشوبها شيء، اتجهتُ نحوها ببطء افكر في إجابة لسؤالهِ وأنا أرى الدين كـسِلالٍ تحمل فاكهة التفاح تُقدم الى الإنسان، سِلالاً احتوت على تفاحاتٍ فاسدةٍ واخرى طازجة، تُقدمها لك اسرتك بعد ولادتك، المشكلة انك لا تعرف الفاسد منها والطازج فكلاهُما مُتشابه اللون والمظهر، لن تتعرف على الفاسد منها إلا بعد أن تتذوقُ منها، إن حالفك الحظ ولم تكن من نصيبك تُفاحةً فاسدةً فأنك ستبقى مُعافى، تلتقط تفاحتك من سِلال اسرتك ونشأتك ولن تعرف الفاسد منها الى أن تُقرر المُقارنة بين أنواع التفاح في كُل السِلال، سيخبرك رجلُ الدين بأن الفاسد منها هو الصالح، سيخبرك إن تسممَت بأنهُ ليس تسمُم، سيخبرك بأن وجع التسمُم ما هو إلا سمو الروح في أشد حالات التقوى، لكنك ستعلم الحقيقة، وقتما تُعلم بأن هُنالك أشياءً كثيرةً غير (التُفاح) تصلح لأن نقتات عليها، إن لم تُقدم الاُسرة الدين للإنسان، فسيُقدمهُ المجتمع عند نشأته وفق شِكل سَلّة التُفاح خاصتهم، في بعض المجتمعات المتحضرة يقدم لك المجتمع السَلّةُ بأكملها لتختار بحسب ما يملي عليك عقلك، لتختار الدين والمذهب الذي يوافق إيمانك وما تعتقد، اما في مجتمعاتُنا المُغلقة والرجعية، فإن الابوين والقبيلة هما من يمسُكان بهذه السلّة ويمُدان أيديهُما فيها ليختاروا لك منها تُفاحةً تُشابه التُفاح الذي اعتادوا عليه، المُشكلة أنك ستتذوق التفاح لأول مرة وستعتاد على تناوله، لن يحق لك اختيار، إن كانت فاسدة أو لم تكن، لن يُغريك طعم الصالح منها مهما تذوقت بعد نشأتك، وإن حاولت تذوق غيرها فأنهم سينهالوا عليك بشتى الالفاظ الذي تتسبب بالسخط المُجتمعي.
يسألني قريني: وهل تمكنتُ من أن تختار تُفاحتك؟
قلت: لا اعلم، أنا لا اذكرُ سوى ما حدثتُك عنه.
أنظرُ الى السماء لثوانٍ مع الصمت، اتنهد، استدركتُ قائلاً: لطالما كانت شخصية وأفكار (ابن رشد) تُعجبني، كنتُ اتبناها واروم لنشر تعاليمها قدر ما استطعت وأنا أقرأ له، كان يتبنى فكرة فصل الدين عن العلم، تحدث عن الحقيقة المزدوجة قائلاً "إن العلم يستخدم أدوات العقل والمراقبة والدين يعتمد على الإيمان الغيبي فلا يجب أن يحاول أحدهما إثبات الآخر أو نفيه وإن للدين حقيقته وللعلم حقيقته فلا يجوز الخلط بين الحقيقتين" كان شخصيةً عظيمة، اثار انتباهي ودهشتي في تعريفهُ للشريعة قائلاً: "الشريعة قسمان: ظاهر ومؤول، والظاهر منها هو فرض الجمهور، والمؤول هو فرض العلماء، وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله، وأنه لا يحل للعلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهور، كما قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله"  وجدتُ في القبو عدة مؤلفاتٍ له، وضّحَ لي الكثير من المفاهيم التي لا اكاد افهم تعريفها، قرأت ما كتبهُ عن (الروح) وعن (معرفة الحقيقة) فهو يقول بأن (الروح) منقسمة إلى قسمين: الأول شخصي يتعلق بالشخص والثاني فيه من الإلهية ما فيه، وبما أن الروح الشخصية قابلة للفناء، فإن كل الناس على مستوى واحد يتقاسمون هذه الروح وروحا إلهية مشابهة، أما (معرفة الحقيقة) فهي نوعان ايضاً: الأول معرفة الحقيقة استناداً على الدين المعتمد على العقيدة وبالتالي لا يمكن إخضاعها للتمحيص والتدقيق والفهم الشامل، والمعرفة الثانية للحقيقة هي الفلسفة.
يقول قريني: أتعلم ما جناهُ (ابن رشد) من افكارهِ هذه؟ تم اتهامهُ بالكفر والإلحاد.
قلت: نعم، تم تكفيره وحُرقت كتبه وتم نفيه، انفاهُ (أبو يوسف يعقوب) إلى (مراكش) حتى توفي فيها عام (1198م).
يسألني قريني: كيف كانت تُفاحتك؟ هل كانت صالحة أم فاسدة؟
انتابني الصمت لثوانٍ، أنا لا أتذكر شيئا أكثر مما قُلت؟ وكأن ذاكرتي توقفت الى هذا الحد، ما الذي حصل بعد ذلك؟
سألتُ قريني بنبرة التعجُب: لما لا أتذكر المزيد؟
قال: اقترب وسأمنحك المزيد من الذاكرة.
قلت: وهل بإمكانك ذلك؟
قال: بالتأكيد، انت هُنا لتتذكر، لُتعيد فهم وإدراك كل ما فعلتهُ.
وقفتُ على طرف بُركة الماء، انحنى رأسي وأنا أجلس القُرفصاء، اخذتُ بيدي القليل من الماء، رفعتهُ الى الأعلى لينزل على شكل قطرات مُتتالية في البركة، نظرتُ الى الدوائر التي تصنعُها القطرات حال مُلامستها للماء، سألتُ نفسي بغرابة، لمَ لا اشعرُ بالعطش! لمَ لا اشعر بالجوع! حتى أنني حين كنتُ اسير لم اشعرُ بأنني ابذلُ أي جُهد! لا اشعر بالتعب! وأنا أنظر الى دوائر الماء وهي تتشتت رأيتُ وجهي ففزعت، تقربتُ من الماء بعدما ركد بشكلٍ تام، تفحصتُ وجهي فهلعتُ راكضاً نحو قريني، وأنا اركضُ، رأيتُ نفسي في غُرفةٍ بيضاء، توقفت عن الركض لأنظر الى اركان الغرفة فوجدتُ نفسي بذات المكان، على السهل الأخضر الساكن، واصلت الركض فوقفت خلف قريني، لم أتمكن من التقرب منهُ أكثر ...
وبرعشةِ خوفٍ هائلة، سألتهُ: لمَ أنا بعمر الشباب؟ لمَ وجهي بهذا الشكل وكأن لي عشرين عاما؟ أنا تجاوزت الخمسين!
صمتَ ولم يُجبني، كررتُ سؤالي بصوتٍ عال وبهلعٍ أكبر ...
أجابني بصوتٍ هادئ: أنت ميت.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم